(راجح! حبيبي! أرجوك. . . إن العدوّ لا يرحم، ولا يعفو؛ فلا ترمِ بنفسك إليه. . . احرص على حياتك من أجلي يا حبيبي! عِش لي، أْوْلا، فاقتلني وأسدل بيديك أجفاني قبل أن أرى فيك مصارعَ أهلي وأهلك يا راجح!)
كانت (بدرية) تتحدث إلى فتاها وقد أمسكت بيديه، ورفعت إليه عينين مخضلّتين بالدمع وفي صوتها نبرة يأس وأسى. كانت موقنة بأنه لن يستمع إليها، ولن يجيب؛ ولكن جذوة الحب التي تؤج في صدرها كانت تبعث في نفسها إثارةً من الرجاء! واستمع إليها الفتى صامتاً وفي قلبه عواطف تصطرع، وفي رأسه خواطر تموج وتتدافع؛ وأوشك أن ينتكث عزمه، حين التقت عيناه بعينيها الدامعتين وأحسّ شَدَّ يديها على يديه كأنما تخشى أن يفر إلى أجله قبل أن تُقلى إليه كلمة الوداع!
وبرز القمر من خلل أعذاق النخيل، فألقى شعاعه على وجه الفتى والفتاة جالسين مجلسهما على مقربة من مضارب الحيِّ، وقد سكن كل شيء منهما ومما حولهما، إلا قلباً يجف وأنفاساً تتردّد. . .
وثابت إلى الفتى نفسه حين أذكرتْه صاحبته مصارع أهلها وأهله؛ لقد كان موشكا أن يخور وتضعف عزيمته، ولكن ذكرى أهلها، وأهله. . . ووطنه. . . قد ردّته إلى رأيه، فأفلت من يدي صاحبته ووقف، وهتف:
(نعم. . . ولكنَّ دم آبائي يا بدرية، ودم أبيك، وشرف الوطن. . . يناديني؛ لقد أقسمتُ أن أنتقم أو أموت، وسأنتقم، أو أموت. . . ويومئذ ألقى آبائي، وآباءك، رافع الرأس فخوراً بما بذلت لأهلي ووطني، من دمي. . .!)
وراح يدبّ على رمال الصحراء، تحت ضوء القمر، وبندقيته على كتفيه؛ لم يحاول أن ينظر إلى وراء فيودْع الفتاة التي كان كلَّ شيء في دنياها وكانت؛ ومضى ليجيب داعي الوطن!
كان ذلك منذ بضع عشرة سنة، حين زحفت الجنود المغيرة من مربضها الذي ترابط فيه