أجل، إن الذين آمنوا بالصياغة ودعوا إليها، كانوا أفهم لمعنى البلاغة من الذين كفروا بها وزرَوْا عليها. ذلك لأن تجويد الصور يستلزم تجويد الفِكرَ وليس كذلك العكس. والعناية الدقيقة بالعبارة سبيل إلى إجادة التفكير وإحسان التخيل كما يرى فلوبير. وفلوبير هذا كان إمام الصناعة في فرنسا، أخذ نفسه بالتزام ما لا يلتزم غيره، فكان لا يكرر صوتاً في كلمة، ولا يعيد كلمة في صفحة. وكانت أذنه هي الحَكم الأعلى في صوغ الكلام، فلا تسيغ منه إلا ما حسن انسجامه وتعادلت أقسامه وتوازنت فقره. قال فيه تلميذه ومواطنه موباسان:(كان يرفع الصحيفة التي يكتبها إلى مستوى نظره وهو معتمد على مرفقه، ثم يتلو ما كتب جاهراً بتلاوته، مصغياً لإيقاعه؛ فكان في نَبره وإرساله يوفق بين السكنات والحركات، ويؤلف بين الحروف والكلمات، ويضع الفواصل في الجملة وضعاً دقيقاً محكماً فكأنها الاستراحات في الطريق الطويل).
وقال هو لبعض أصحابه:(تقول إنني شديد العناية بصورة الأسلوب، والصورة والفكرة كالجسد والروح هما في رأيي شيء واحد. وكلما كانت الفكرة جميلة كان التعبير عنها أجمل. إن دقة الألفاظ من دقة المعاني، أو هذه هي تلك).
وقد غالى علماؤنا البيانيون فزعموا أن المعاني شائعة مبذولة لا يملكها المبتكر ولا السابق، وإنما يملكها من يحسن التعبير عنها. فمن أخذ معنى بلفظه كان له سارقاً، ومن أخذه ببعض لفظه كان له سالخاً، ومن أخذه فكساه لفظاً أجود من لفظه كان هو أولى به ممن تقدمه. على أن هذا الرأي الجريء لم يكن رأي العرب وحدهم، وإنما يراه معهم (بوفون) وأشياعه من كتاب الفرنج؛ فقد قرر في خطبته عن الأسلوب التي ألقاها يوم دخل الأكاديمية الفرنسية، أن الأفكار والحوادث والمكتشفات شركة بين الناس، ولكن الأسلوب من الرجل نفسه.
نعم قال بوفون: إن الأسلوب من الرجل نفسه ' ولم يقل: إن الأسلوب هو الرجل ' ' كما شاع ذلك على الألسنة. ولم يرد بما قال أن الأسلوب ينم عن خلق الكاتب ويكشف عن طبعه كما فهم أكثر الناس، وإنما أراد أن الأسلوب، ويَعني به النظام والحركة المودعين في الأفكار، هو طابع الكاتب وإمضاؤه على الفكرة. ومعنى ذلك أن الأفكار