نشأ الشعر العربي أول ما نشأ فصيحاً. وعاش فصيحاً زمناً طويلا بعد نشأته. لم تزايله فصاحته ولم تتحول عنه عربيته، حتى اختلط العرب بالعجم وبخاصة في عصر بني العباس. فأدى هذا الاختلاط إلى فساد السليقة العربية وانحراف اللسان الفصيح. وتكونت اللغة العامية، وتغايرت طرق أداء المعاني فيها عن مأثور العربية. وألف العرب التخاطب بها، وتناقل المعنى بأساليبها.
ومنذ ذلك الحين أخذ كثيرون من أهل الغيرة على لسان القرآن والحديث يكافحون سيلها ويدرءون خطرها. ولكن جرت الحوادث دون غايتهم، وتتابعت الأيام دون ما أملوا. وعاشت العامية، ولا تزال تعيش، طاغية بين جماهير الأمم العربية. إلا أن لغة العلم والأدب والشعر، ظلت بمنأى عن العامية إلى حدما؛ غير أنها لم تسلم جملة من رذاذ منها يصيبها، ومن رشاش ينتثر عليه.
ونعني بالأساليب العامية، الطرق الكلامية والعبارات التي يؤدي بها العامة مضمون أفكارهم ومتبادر معانيهم بدون حرص منهم على تحري قواعد العربية في نحوها وصرفها.
والأساليب العامية بهذا، تفترق افتراقا ما، عن أساليب العامة. ولبيان ذلك نقول: إن في كل أمة من أمم الأرض غابرها وحاضرها، طبقتين متميزتين، كما تجمع بينهما جوامع عدة، تفرق بينهما فوارق شتى، وهما العامة والخاصة.
أما الخاصة فهي الطبقة النابهة، التي سلكت إلى الثقافة مسالكها، وبلغت من التعليم حظاً موفوراً، وأوتيت بجانب ذلك ذكاء في القريحة، ورهافة في الحس، وطلاقة في اللسان، وقوة على التعبير. فيقع خاطرها على الفريد من المعنى، والجديد من الرأي، أو يسمو إلى الرائع من الصور، والبديع من الأخيلة، فيسجل الشوارد، ويقيد الأوابد. وهي بذلك وبعد ذلك، تنشر نوازعها على العامة، فتؤثر أثرها الجليل في حياتهم وحياة الأمة جمعاء. فتعتقد الخاصة بذلك، منها مقعد القيادة والتوجيه.
والخاصة لها أساليبها وطرق أدائها للمعاني، بل لها مفرداتها بل ومصطلحاتها، ولغتها هذه