للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[السمكة]

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

حدَّث أحمد بن مسكين الفقيه البغدادي قال: حصلت في مدينة (بلخ) سنة ثلاثين ومائتين، وعالمهما يومئذ شيخ خراسان أبو عبد الرحمن الزاهد صاحب المواعظ والحكم، وهو رجل قلبه من وراء لسانه، ونفسه من وراء قلبه، والفلك الأعلى من وراء نفسه، كأنه يلقى عليه فيما زعموا، وكان يقال له عندهم (لقمان هذه الأمة) لما يعجبهم من حكمه في الزهد والموعظة. وقد حضرت مجالسه وحفظت من كلامه شيئاً كثيراً كقوله: من دخل في مذهبنا هذا، (يعني الطريق) فليجعل على نفسه أربع خصال من الموت: موت أبيض، وموت أسود، وموت أحمر، وموت أخضر، فالموت الأبيض الجوع، والموت الأسود احتمال الأذى، والموت الأحمر مخالفة النفس، والموت الأخضر طرح الرِّقاع بعضها على بعض (يعني ليس المرقعة والخَلَق من الثياب).

وقلت يوما لصاحبه وتلميذه (أبي تراب) وجاريته في تأويل هذا الكلام: قد فهمنا وجه التسمية في الموت الأخضر ما دامت المرقعة خضراء، فما الوجه في الأبيض والأسود والأحمر؟ فجاء بقول لم أرضه، وليس معه دليل، ثم قال: فما عندك أنت؟ قلت: أما الجوع فيميت النفس عن شهواتها ويتركها بيضاء نقية، فذلك الموت الأبيض؛ وأما احتمال الأذى فهو احتمال سواد الوجه عند الناس فهو الموت الأسود؛ وأما مخالفة النفس فهي كإضرام النار فيها، فذلك الموت الأحمر.

قال أحمد بن مسكين: وكنت ذات نهار في مسجد (بلخ) والناس متوافرون ينتظرون (لقمان الأمة) ليسمعوه، وشغله بعض الأمر فراث عليهم، فقالوا: من يعظنا إلى أن يجيء الشيخ؟ فالتفت إلي أبو تراب وقال: أنت رأيت الإمام أحمد بن حنبل، ورأيت بشراً الحافي وفلاناً وفلاناً، فقم فحدث الناس عنهم، فإنما هؤلاء وأمثالهم هم بقايا النبوَّة، ثم أخذ بيدي إلى الاسطوانة التي يجلس إليها إمام خراسان فأجلسني ثمَّة وقعد بين يديّ.

وتطاولت الأعناق، ورماني الناس بأبصارهم، وقالوا: البغدادي! البغدادي! وكأنما ضوعفت عندهم بمجلسي مرة وبنسبتي مرة أخرى، فقلت في نفسي: والله ما في الموت الأحمر ولا الأخضر ولا الأسود موعظة، ولو لبس عزرائيل قوس قزح لأفسد شعر هذه الألوان معناه،

<<  <  ج:
ص:  >  >>