فهو يفهمها على إنها غطرسة من جانبه، وذلة من جانب مرءوسه، وإلا لم يكن المرءوس مؤدباً. فرئيس المصلحة ليس لأحد رأي بجانب رأيه، ولا لوكيله ولا لمديري إدارته، عليهم أن يسمعوا في ذلة والعزة له وحده، ثم يتكرر تمثيل هذا الدور من أعلى فنازلاً، فكل من بعد الرئيس الأعلى رئيس من جانب ومرءوس من جانب، فهو كمرءوس حاله ما بيّنا، وهو كرئيس يقلد تقليداً تاماً رئيسه في اعتزازه وإذلاله، وهكذا دواليك، حتى يصل الأمر إلى ما نرى من الباعة في الشارع والجندي، فمثلهم كالقاطرة تصدم العربة التي تقابلها ثم كل عربة تصدم ما بعدها إلى آخر القطار.
ليس لهذا من علاج إلا فهم العزة بمعناها الدقيق، وهو احترام نفسك في غير احتقار أحد، وأن تقف موقفاً له جانبان، فإن نظرت إلى من هو أعلى منك في المنصب والجاه والجنسية فلا تمكنه أن ينال من نفسك ولو ذرة، ولا أن يتعدى حدوده ولو شعرة؛ وإذا نظرت إلى من هو أسفل منك فلا تتعد حدودك، وإذا شعرت باستخذائه وذلته فأرفع مستواه ما استطعت حتى يصل إلى الحدود على أنه ليس هناك أسفل ولا أعلى إلا في مواضعات سخيفة، فمن الذي قال إن كناس الشارع وضيع وفراش المصلحة وضيع، والخادم في المنزل وضيع؟ نعم إن الحالة الاجتماعية فرقت بين الناس في المرتب ونحوه، ولكن القيمة الحقيقية للإنسان وهي ما له من حقوق وواجبات قدر مشترك بين الجميع.
فليس من حقك أن تنادي بائع الجرائد (يولد) ولا خادمك بأحقر الأسماء، ولا فراش المصلحة بما يشعر باحتقاره، وهو مطالب بالأدب معك، وأنت مطالب بالأدب معه، وليس للجندي حق أن يرفع عصاه على بائع لم يتجاوز حدوده، ولا لأي رئيس أن يخرج عن الأوضاع الأدبية في مخاطبته مرءوسه. فإذا فرغ الرئيس والمرءوس من العمل، وفرغ سائق السيارة ومالكها، وفرغ الضابط والجندي والمعلم والتلميذ فكلهم سواء في الحياة الاجتماعية، وكلهم سواء في الحقوق، لا ذلة لأحد على أحد، ولا اعتزاز من أحد على أحد