وقفت إلى جانب الطريح المسكين وقد فقد المحيطون به الأمل في حياته، وكان رجلاً نيف على الستين، ظل يجاهد في عمله حتى وقع وهو يدفع عربته وعليها حملها الثقيل فكان في وقعته أجله، وهو من أهل الصعيد الأعلى كما تنم عليه عمامته وسحنته، إذ كان ثوبه المهلهل لا يكاد يتماسك في رأي العين ليكون آية دالة على منبت لابسه، فكان موته في جوار البحر الملح موت المهاجر الشهيد، لا تحيط به عناية أهل، ولا ترفه عنه شفقة البنين. ومن يدري ماذا كان يعاني ذلك المسكين قبيل ضجعته من آلام تحملها صامتاً، وجاهد في سبيله وهي تخزه وتطعنه؟ ومن يدري على أية حال من الضعف كان يدفع بحمله في سبيل القوت، وسوط الجوع من ورائه يلهب ظهره؟
ووقف حوله معي من أهل الساحل بقوامهم السمهري ولونهم الخمري، فكانوا يؤدون له تحية الوداع على غير معرفة، والشفقة بادية في محياهم، ولم يكن أحدهم خيراً منه بزة ولا مظهرا، ولكنهم كانوا جميعاً يعرفون كنه ما في هذه الحال من عظمة لأنهم يجاهدون مثله، ولعلهم هاجروا مثله من بلاد قصايا في التماس الخبز وما يبلله من رقيق الآدام. (أولئك قومي بارك الله فيهمو)
وانصرفت وفي عيني دمعة كما كان في عين سواى من الوقوف إشفاقا على ذلك المسكين، وجعلت أفكر فيما تدين به الحياة لهؤلاء. فهم عدة السلم، وهم سواعد العمل، وهم جنود النضال. وأذكرني ذلك التفكير ببطل من هؤلاء الدهماء ذكر التاريخ اسمه، وأقام له تمثالاً هو رمز لمجهولي الأبطال، فلسنا نعرف أهله ولا منبته. ولا شيئاً مما يمسه غير اسمه، وهو (عيسى العوام)
كان ذلك الرجل يعيش في عكاء ثغر الشام منذ نيف وثمانمائة عام. في أيام النضال الكبير بين الشرق والغرب - أيام الحروب الصليبية - وكان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب في ذلك الوقت في صراع الحياة أو الموت مع ملوك الفرنج قد بلغ به الجد أن كان يتمثل بقول عبد الله بن الزبير وهو يصارع الأشتر النخمي في موقعة الجمل مصارعة من