للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[إلى الأستاذ الزيات]

تكيف الأخلاق الفاضلة

للأستاذ خليل جمعة الطوال

- بلى يا محمود! وهل تشك في ذلك. . .! إن الأخلاق الفاضلة هي مبعث كل سعادة، وأس كل نجاح، ولولا فضيلة الخلُق لكان للعالم شأن غير هذا الشأن. فهي الصخرة الناشزة في طريق الكفر التي تحطمت عليها أصنام الوثنية في قريش؛ وهي القوة العظيمة التي بدَّلت نواميس الطبيعة التي لا تتبدَّل يوم هرب موسى بشعبه من ظلم فرعون الطاغية؛ بل هي العدة الوافرة التي تسلح بها المسلمون في جهادهم فجعلت سيوف المشركين في أيديهم خشبا، وحملها العرب في فتوحاتهم فإذا بها لغم تداعت له جوانب الإيوان وشرفاته، وتلاشت فيه أبهة التاج ومجوهراته. ولكن ما العمل فقد تطور الحال، واستحال الزمان، ولم يعد ابن الأمس - المتوحش على زعمنا - في قياس هذا العصر بإنسان، ولا أخلاقه الرجعية بالتي ترجح فيها كفة الفضيلة في الميزان؟

يا أخي! إنها (لموضة) تعم كل شيء، وتجتاح كل ما في سبيلها، وتخضعه لحكمها؛ فلا فرق في ناموسها بين الأخلاق الفاضلة والسراويل المخرفجة التي يلبسها خصيان الأتراك. ومتى انتشرت (الموضة) فعار على الإنسان أن يتخلف عنها. ولقد نظرتُ في تاريخ المدنية فرأيت فيه أزياء من الأخلاق بعدد (موضات) الملابس، ورأيت أن الأخلاق تتكيَّف بالزمن وملابساته، تكيف الجسم بالمحيط ومؤثراته. وما تعمل الأخلاق غير هذا. . . إنها مكرهة عليه لتحتال لنفسها على البقاء وتنجو من يد الفناء، فهو طريقها في شهوة الخلود، ولا محيص لها عن سلوكه. ألا فانظر كيف يقلم الإنسان أظفاره لاستغنائه عنها، ويدرمها (بالمونيكير) مجاراة للموضة، وكيف حسر عن رأسه ليظهر شعرهُ السبطُ اللامعُ المطيب بأطايب (الموضة) أفلا يسفر بعد هذا عن أخلاقه!. . . ولقد نظر في ناموس الأخلاق، فرأى أن الفضائل التي كانت فيما مضى قائمة به إلى معالي الأمور، حافزة له على عظيم المآثر، هي القاعدة به اليوم عن عالي الرتب، وعريض الجاه؛ وهي السالكة به طريق الفشل، والصادة له عن محجة النجاح؛ فلا عجب بعد هذا أن يتنكب جادتها، ويصد عن ورد شرعتها؛ فالكرمُ الذي كان يتهالك عليه المرءُ فيما مضى، إذ كان طريق السؤدد

<<  <  ج:
ص:  >  >>