كان من أثر الفزّعة الشديدة التي نالت الناس من الغارات الجوية الإيطالية أن لجأ سكان العاصمة والثغور، إلى القرى والعزب والكفور، يلتمسون الأمن في ظل الريف الوريف، وينشدون الهدوء في حِضن الطبيعة المشْبل
وكان الطيار الذي يحلق ذات صبح من هذه الأصباح المضطربة، في سماء مصر المشرقة المخوفة، يرى الطرق الرئيسية تسيل بحاملات الأنفس وناقلات المتاع بين القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية وبور سعيد، فلا يجد نوعاً ولا شكلاً من عربات النقل أو الركوب التي تسيرها الأحصنة الحيوانية أو الميكانيكية إلا جُمع لهذه الهجرة التي لم تر مثلها مصر في ماضيها الطويل!
هذه سلاسل من عربات النقل تجرها الخيل أو الحمير فتسير على يمين الطريق وئيدة الكرِّ تقعقع عجلاتها مخنوقةً في التراب، وتجلجل أجراسها خافتة في الجو من ثقل ما تحمل من الأثاث و (الكرار) والماعون. . .
وهذه قوافل من اللوريات المكشوفة والمغطاة موقرةً بالأثاث الفخم والرياش الثمين، تهتلك دُروجاً في وسط الطريق المترِب فتثير غماماً من الغبار الخانق يحجب وراءها الأشخاص والأشياء إلى مسافة بعيدة
وهذه أرتال السيارات المملوكة أو المأجورة تَشْرَق بمن فيها من النساء والرجال والأطفال، وهي تنتقل من الوسط إلى الشمال، لتخطف طريقها من الكميونات العنيدة
ولدى كل نقطة من (نقط المرور)، وعلى كل رأس من رءوس الجسور، طوائف من القرويين والقرويات، يُلوِّحون بالفواكه والمرطبات، فلا يكاد المهاجرون المفزَّعون يحسونهم، لتوزع قلوبهم بين أهوال الحرب المتوقعة، ومخاوف الحياة الجديدة
أشرقت القرى العوابس بألوف من ناشئة النعيم المدني ذوي الوجوه الرفافة والأطراف الناعمة والطرر المصفوفة والبنائق المفوّفة والطرابيش القانية؛ وألوف من نابتة المطبخ الحضري ذوي الوجوه المطهمة واللغاديد الضخمة والبطون الشحيمة والجسوم الرهلة؛ وازدانت الأكواخ والمصاطب وحواشي البرك وحفافي السكك برواد الكنتننتال والكرسال وسان جِمس؛ واعترى القرى بادئ الأمر من التزابل والانزواء ما يتعرى القروية إذا رأت أحد الأفندية على حين فجأة. ثم أدرك القروين أنهم ملاذ هؤلاء الضيوف فاستشعروا قليلاً