من الجرأة، فخالطوهم وباسطوهم حتى ارتفعت الكلفة بين أهل المهجر وأصحاب الدار، وأصبح بينهم من التعاون والألفة ما كان بين المهاجرين والأنصار
وفي سقيفة من شجر الصفصاف وحطب القطن، بين تل من تلال السماد الطري، ومستنقع من آسن الماء الوَحِل، جلس ذات يوم جماعة من المهاجرين بعد شهر من الهجرة وقد حف من حولهم رجال القرية بين مضطجع فوق الحصا، ومحتبٍ بحضيض التل، ومستند إلى جذع الشجرة. وكان كل رجل من هذه الجماعة قد نال من جسمه الشحوب، وشاع في نفسه السأم، وانتشر على جبينه الأبلج حَبَر البراغيث والبعوض، فهو يتكلم من غير شهوة الكلام، ويجيب من غير تفكير في الجواب، ثم يذهل ذهول شارب الأفيون فلا كلمة ولا حركة. ولكن الشيخ السنطاوي، وهو رجل أزهري الثقافة سليط اللسان جرئ القلب، أراد أن يشفي صدور الفلاحين من هؤلاء المترفين الذي سلبوهم نعمة الله وراحة الدنيا وحق الحياة؛ فقال في خبثه المعهود يسأل أحدهم وهو من الملاك الغِلاظ المتأبهين:
- لعلك سعيد يا بك بجمال الطبيعة وبهجة الحقول وصفاء الهواء وهدوء القرية!
ولم يكد الشيخ يتم حتى تحرك ساكن القوم، ثم جاشت حركتهم حتى فارت على ألسنتهم خليطاً من الكلام فيه الضجر والسخر والملام والسب، قالوا:
- أين الجمال وهذه المزابل والزرائب والخرائب والبرك تقذي الأعين؟ وأين البهجة وهذه الأجسام الضاوية والثياب البالية والمساكن التي في بطنها الوحل وعلى ظهرها الروث تقبض الأنفس؟ وأين الصفاء وهذه الدور المنتنة والأزقة القذرة والمراحيض المكظومة تسمم الأبدان؟ وأين الهدوء وطنين البعوض والذباب، وتجاوب الكلاب والذئاب، ونقيق الضفادع، ونهيق الحمير، وصراخ الأطفال، تؤلف جوقة من الموسيقى الشيطانية تحطم الأعصاب؟
إن القرية الأوربية خميلة من خمائل الفردوس فيها متعة الحس والعقل والجسم؛ وكان الظن بالقرية المصرية أن تكون قريبة الشبه بتلك. فلما رأيناها أنكرنا أن يكون سكانها من الناس، لأنهم يأكلون ما تعافه الكلاب في المدن، ويشربون ما لا يجوز أن نغسل به الأقدام في المدن، ويعانون من مختلف الأمراض في القرية الواحدة، ما لا يجتمع مثله إلا في المستشفيات المتعددة. فنحن بهجرتنا إلى القرية قد فررنا من موت متوقع إلى موت محقق.