فرض الشاعر بمخيلته القادرة أن الأرواح المجردة تتكالم، في السماء، عن البشر وغريزتهم في الأرض. وهذا يعتبر فرضا فنيا يزيد في فهم القارئ وضوح الفرق، في تكافح الروح والجسد، بين نزعتها العلوية السماوية ونزعته السفلية الأرضية. وهو أيضا خيال أدخل في الصنيع البديع عنصرا مخففا من عناصر الملاحم: لأن أيجاد الخوارق فيها - بإدخال كائنات فائقة قوى الطبيعية في حوادثها - كان أمرا جوهريا، ثم أصبحت الخوارق محسنا اختياريا يرعى فيه احتمال الذوق العصري. وكأن هذا الخيال اتفاق أدبي مضمر بين الشاعر وقرائه، كالاتفاق الروائي الضمني في الروايات، بين المؤلف والنظارة: كأنهم اتفقوا معه على التسليم بالفرض الأول في روايته، ليضحكهم أو يبكيهم بما بنى عليه من مواقف، وبنا أنطق فيها أبطاله من كلام
واختار الشاعر من أسماء الأساطير الإغريقية أسماء لأبطاله؛ وهو اختار موفق لما تشير أليه هذه الأسماء - بتداعي المعاني في ذهن القارئ - من أن القصص يصف غريزة الإنسان وأخلاقه من ماض بعيد؛ ولأن أسماء أهل الفنون أليق بملحمة فيها كلام على الفنان وعلاقته بالمرأة. وفي اختيار تلك الأسماء القديمة مزية أخرى: فقد حسن وجودها في هذه الملحمة من حيث أن العتيق أشعر من الحديث، كالسيف مازال أحب في الشعر من المدفع. فما ظنك بمن لم يجد أسماء عربية تجمع مزايا تلك الأسماء الإغريقية، وتحسن حسنها إن حلت محلها في الملحمة، فود لو أن الشاعر تبدل بها أرقاما في شعره ولم يضيع دلالتها على شخصيات معروفة في الأساطير أو التأريخ!
واتهم شاعرنا بالغريزة في الأشباح، وبرأ الأرواح المجردة. فالأرواح ذوات الأسماء الإغريقية تتكلم في العالم العلوي طليقة من قيود أشباحها، تتكلم قبيل بعثها بما يصف سجايا الفنانين الآدميين وغرائز الإنسان؛ وفي كلامها أنها حين تهبط في أشباحها إلى الأرض،