(إلى صديقي الأستاذ أنور المعداوي إعجابا بقلبه الكبير)
للأستاذ شاكر خصباك
من كان يتصور هذا؟! من كان يتصور أن ذلك القلب الصغير يتسع لكل تلك العواطف الكبيرة الزاخرة بأسمى مشاعر الحب والوفاء؟! أجل، من كان يتصور هذا؟! ومع ذلك فقد جرى كل شئ في بساطة مدهشة.
كان المنزل الذي اتخذته مقرا لي في القاهرة يعج بالمغريات، وكنت أحاول إقناع نفسي باستئناف حياة جديدة خالية من عنصر النساء - بعد أن جر على متاعب جمة - فانطلقت أنقب عن أسرة صغيرة أشاركها العيش علني اسكن إلى حياة رزينة. وهكذا عرفت تلك الأسرة الفرنسية الطيبة. وكان قوامها زوجين في العقد الرابع من عمرها وصبية في ربيعها الثالث عشر ذات حظ موفور من الحسن بشعرها الأصفر الذهبي وعينيها الزرقاوين الواسعتين وملامحها الدقيقة الساذجة.
وانطويت على نفسي في الأيام الأولى، فلم أتبادل مع الأسرة سوى أحاديث قصيرة على مائدة الطعام. وفيما عدا ذلك كنت اعتكف في غرفتي منصرفا إلى القراءة والدرس. لكنني ما لبثت أن استشعرت الوحشة في هذه الحياة الرتيبة، وحننت إلى دنيا اللهو والمرح. وخشيت أن يفلت الزمام مني فعقدت العزم على الاندماج في الأسرة لو أد هذا الحنين. ولقد شجعني ما لمسته في الزوجين من طيبة ونبل على المضي في قراري قدر الإمكان.
وشرعنا ننتظم كل مساء في جلسة هادئة لنتحدث في شتى شؤون الحياة. وكنت انصرف إلى الزوجين أثناء تلك الجلسات غير معين بتوجيه الحديث إلى فلورا. واحسب أنني لست ملوما على ذلك السلوك، فقد كانت هي عونا لي على تجاهلها بما كانت تبديه من جمود اقرب إلى النفور. وكان يحدث لي أحيانا أن التفت نحوها عفوا فأراها معلقة الأنظار بوجهي وهي سارحة الفكر، وتلتقي عيناي بعينيها وسرعان ما تغض طرفها في ارتباك وتعلو وجنتيها حمرة خفيفة.