للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[على عتبة الأربعين]

للأستاذ علي الطنطاوي

نزعت رجلي من الركاب، وطردت من ذهني هم السفر، ونفضت ما علق بذاكرتي من غبار الحاضر، ثم نفذت إلى ما احتوت من كنوز الماضي، من معجزات البطولة والنبل، من تاريخنا الواقع، الذي لا يصل إليه خيال غيرنا، ولا يتعلق به وهمهم وحاولت أن أكتب للعدد الممتاز من الرسالة فما سرت في الفصل غير بعيد، حتى تباطأ قلمي ثم تعثر، ثم وقف. . . وأحسست في نفسي بهذا الضيق الذي ما أنفك يلازمني منذ أكثر من عشر سنين فيطفئ وقد حماستي، ويعقل نشاطي ويغلق أبواب الإلهام دوني، فلا أكتب ما أكتب إلا لملء الفراغ، وتزجيه الوقت كالذي يمشي العشية يجر نفسه جرا لا يسوقه مقصد، ولا تجذبه غاية. . .

ونظرات فإذا أنا بعد شهرين، أتم الأربعين أربعين سنة قمرية درت فيها مع الفلك، وسايرت الشمس واستقبلت السنين ثم ودعنها كما استقبلتها وأستولدت الآمال، ثم دفنتها كما أستولدتها ورأيت أفراحاً ورأيت أتراحاً، وصادقت وعاديت، وأحسنت وأسأت، فما الذي خرجت به من ذلك كله؟

لقد قطعت في هذه السنين الأربعين أكثر الطريق ولكن لم أعرف بعد إلى أين المسير! ومشيت أكثر من أربعة عشر آلف يوم تباعا ولكن لم أدر إلى أين أمشي!

أنني أصحو كل يوم فاكلم أهلي، واكل طعامي واذهب إلى عملي، ثم أعود إلى داري فاكتب مقالتي أو أنظر في كتابي، أو أوزر أصحابي، أو ألهو بما يلهو به مثلي، ثم أنام لا صحو من الغد، فأعيد الفصل ذاته. . . ولأيام تكر، والسنون تطوى، والعمر ينصرم، وأنا (امثل الرواية) الأبدية صحو ومنام وشراب وطعام، وصمت وكلام، ووداد وخصام. أما أن أعرف نفسي وأخلوا بها ساعة كل يوم، واسأل من هي، ومن أين جاءت وفيم وجدت وإلى أين تمضي، فهذا ما لم أفعله إلى اليوم. بل أني لأفر منها فرارا وأخاف أن أخلو بها، فأتشاغل عنا بحديث تافه، أو كتاب سخيف أو لهو باطل وإذا أنا ألزمت صحبتها وعدمت الشواغل عنها، ضقت بنفسي وضجرت وأحسست كأني سأجن!

وأنا أصرف العمر في قطع العمر، واجعلي أكبر همي أضاعه يومي، كأني أعطيت الحياة

<<  <  ج:
ص:  >  >>