ركبت مع زميلي في البعثة القضائية السورية الأستاذ محمد نهاد القاسم، زورقاً في النيل حملنا من (جسر إسماعيل) إلى (مصر العتيقة) باجرة فاحشة قبضها منا صاحب الزورق، وبعث معنا شاباً في نحو التاسعة عشرة، قوي الجسم، وديع النفس، فأعمل المجاديف ساعة كاملة، حتى هبط الليل، وغسله العرق، ونحن لم نصل، فأشفقنا عليه وجربنا أن نسعده فما أفلحنا، وكدنا نقلب الزورق به وبنا، فيسبح فيجور ونلقى نحن حقنا، فكعفنا، واكتفينا من الترفيه عنه بعمل بألسنتنا، والمواساة باللسان اقل الإحسان. . . حتى دنا الحديث من أجرته فسألناه:
- كم تأخذ؟
- قال: أربعون قرشاً.
- قلنا: في اليوم؟
- فصاح مستغرباً: في اليوم؟ كل ثمانية أيام!
- قلنا: أو ليس لك أسرة؟
- قال: أم أعولها.
- قلنا: أو تكفيك؟
- قال: تكفيني؟! أبدا.
- قلنا: فلماذا لا تطلب زيادة؟
قال: يضربني عمى أحمد ويطردني، ويخبر زملاءه فلا يشغلوني وأنا لا أعرف إلا هذه المهنة.
- قلنا: وكم يحصل هو؟
- قال: هو. . . كثير. . . كثير. . . عنده عشرة زوارق تمشى النهار كله، كل ساعة أجرتها من عشرة إلى عشرين قرشاً وتركناه وصعدنا إلى البر، ونحن لا نزال نفكر فيه: شاب طويل عريض، كيف يعيش مع أمه بخمسة قروش في اليوم؟ والفراش والآذن؟ كيف يعيشان بثلاثة جنيهات في الشهر؟ والمؤذن؟ والأمام؟ والشرطي؟ والعسكري؟ ماذا يصنع