للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من ظرفاء العصر العباسي:]

أبو دلامة

توفي سنة ١٦١ هـ

للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

(تتمة)

لا ريب أن شذوذ هذا الرجل قد بلغ أشده، فعلى الرغم من كثرة ما كان يصل إلى يده من المال من الخلفاء والأمراء والأغنياء كنت لا ترى عليه إلا سيماء الفقر، إذ لا يعنى بملبسه، ولا يكترث بمظهره، بل ربما بدا أمام الناس بثياب لا تليق إلا بالمتسولين: وقد رأى عليه أبو عبد الله العقيلي مرة فروة في الصيف، فقال له: ألا تمل هذه الفروة! قال: بلى، ورب مملول لا يستطاع فراقه. فنزع العقيلي فاضل ثيابه في موضعه فدفعها إليه.

وما كان ليعجز عن فراق فروته في الصيف على رغم ملله منها وضجره مما تحمله من الحرارة لولا أنه كان يعيش عيشة المحتاجين، وإن أعطى عطاء المترفين. لكنك عرفت أنه كان ينفق أكثر ما يأتيه من المال في شرب الخمر وإتيان الحرمات، فلا غرابة إذا بدا أمام الناس بهذا المظهر الخشن البغيض!

ومع أن رداءة المظهر تصم صاحبها بالازدراء في أعين الناس - فإن لسان أبي دلامة كان من الطول والسلاطة بحيث يمنع الأذكياء من الاستخفاف بشأنه، بل يدعوهم إلى الحذر منه والخوف من طعنه في أعراضهم:

أدلى أبو دلامة بشهادة لجارة له عند أبي ليلى على أتان نازعها فيها رجل. فلما فرغ من الشهادة قال اسمع ما قلت فيك قبل أن آتيك ثم أفض ما شئت. قال: هات؛ فأنشده:

إذا الناسْ فطوبى تغطيت عنهم ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحث

وإن حفروا بثرى حفرت بئارهم ... ليعلم يوماً كيف تلك النبائث

ثم أقبل ابن أبي ليلى على المرأة فقال: أتبيعينني الأتان؟ قالت: نعم. قال: بكم؟ قالت: بمائة درهم. قال: ادفعوا إليها ففعلوا. وأقبل على الرجل فقال: وهبتها لك. وقال لأبي دلامة: قد أمضيت شهادتك ولم أبحث عنك وابتعت ممن شهدت له، ووهبت ملكي لمن رأيت.

<<  <  ج:
ص:  >  >>