للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[القضاء في الإسلام]

قطعة أخرى من محاضرة ألقيت سنة ١٩٤٢ ولم تنشر

للأستاذ علي الطنطاوي

القضاء، أيها السادة، مركب وعر، ومسلك خطر، وكيف لعمري يستطيع بشر، لا يعرف من الأمور إلا ظواهرها، قد خفيت عنه البواطن، وحجبت الأسرار. . . كيف يستطيع أن يقيم حقيقة العدل، ويصيب كبد الحق، ويقوم مقام الرسل والأنبياء، والرسل يتصلون بالسماء بالوحي، ويسلمون من المعصية بالعصمة، وهم مع ذلك لم يؤتوا علم الغيب، وإمام الأنبياء محمد يقول: إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم لتحتكمون إلي، ولعل أحدكما ألحن بحجته من صاحبه فأقضي له، فإنما أقضي له بقطعة من النار - وكيف يهدأ له بال، ويقر له قرار، ويلتذ بمطعم أو مشرب، ويطرب ويلعب، وهو يحمل أثقل عبء حمله إنسان: يريد أن يحقق العدل الإلهي بالوسائل البشرية، ويقول كلمته هو، فيسميها كلمة الشرع، ويصفها بأنها حكم الله؟

لذلك فزع الصالحون من القضاء، وفروا منه فراراً، ورضوا بالسجن ولم يرتضوه، وصبروا على الضرب ولم يقبلوه. عرض على أبي حنيفة ثلاثاً، وهو الإمام الأعظم، فأباه، فضرب على إبائه تسعين سوطاً وظل على الإباء. وقلد سفيان الثوري القضاء، وشرطوا له ألا يعارض فيه، فألقى عهده في دجلة واختفى. وطلب ابن وهب ليولى قضاء مصر، فجمع إخوانه وأهله فشاورهم فقالوا: اقبله فلعل الله يحي الحق على يديك! فقال: أكلة في بطونكم، أردتم أن تأكلوا ديني؟! ثم اختفى وجعل الوالي يطلبه فلا يقدر عليه، فلما عجز عنه هدم بعض داره. وكان في اختفائه يقول: يارب، يقدم عليك إخواني غداً علماء حلماء فقهاء، وأقدم قاضياً؟! لا يارب، ولو قرضت بالمقاريض!

ولم يكن الولاة يفعلون ذلك تشفياً وانتقاماً ممن أبى الولاية، بل رغبة منهم في صلاح الأمة بتولية خيارها قضاءها. ومن قبل هؤلاء فر إياس من القضاء، فلما تعذر عليه الفرار ووقع، نهض به نهضة جعلته علماً فيه شامخاً، وجبلا باذخاً، وجعلت المثل يضرب به في إصابة قضائه، وحدة ذكائه، فيقول القائل: إياس، ويكتفي

خوفهم من القضاء أنه محنة لا يدرون ما مغبتها، وبلاء لا يعرفون ما عاقبته، أيفلحون فيه

<<  <  ج:
ص:  >  >>