دار تَبلى! وكانت إلى الأمس القريب دار الأمة! عليها نزل وحي الوطنية، ومنها انبعث صوت الحرية، وفيها انبثق فجر النهضة، وبها وُلد معنى الاستقلال.
كانت ملجأ الخلافة في الآستانة، ومفزع الخديوية في القاهرة، ومخالفة الاستعمار في لندن، ومثابة الإسلام في العالم كله! تجمعت فيها للأمة رغائب، ونشأت بها للشباب آمال، وخفقت عليها للجهاد (ألوية)، وسمعت مصر في أفنيتها للمرة الأولى أصوات بَنيها الخُلَّص يهتفون باسمها، ويهزجون بمجدها، ويزفرون من الحفيظة لاستعبادها، ويستنجزون الغاصب المحتل وعدوه الممطول وعهده الفاجر! ثم كانت (عكاظ) للبلاغة الخطابية، و (فورم) للمساجلة السياسية، و (كعبة) يتجه أليها أبرياء الصدر من مخامرة الوطن، وأنقياء الصحيفة من ممالأة العدو تلك هي دار اللواء، ونادى مصطفى كامل!
تمر اليوم بمكانها من شارع (الدواوين) فتجد هذا الأثر الضخم والتاريخ الحافل تُعفيه الأحداث والنوازل! كأنها لم تكن في عهدها الداني قلب مصر النابض، وعزم نشئها الناهض، ومنارة أمرها الهادية! أتى البلى عليها أتُّى البلى فنكر أعلامها وأخفقت صداها! كأنها لم تنفض عن الوادي غبار الحمول، ولم تمسح عن الأجفان فتور الوسن! وكأن مصطفى لم يسجل على أركانها أول صيحة بالجلاء، وأول رغبة في الدستور، وأول غضبة للحرية!!.
ولكن الزمن الدوار القهار يحطم كل ما برأ الله وصور الناس من شخص وشيء، فلا يظهر على بأسه إلا الفكرة، ولا يخلد على رغمه إلا العقيدة.
ألا فاسلمى على رغم هذا البلى يا دار! فأن لك في كل قلب آية مسطورة، وفي كل تاريخ صفحة منشورة، وفي كل جيل نشيداً يعطف القلوب إلى الحق، ويلفت العيون إلى النور، ويهدي النفوس الشاردة إلى الغرض الأسمى والسبيل القصد.
ومن الذي ينسى ومضة الروح الإلهي في ذلك الجسد الضارع، فيفور فورة الجبارين، ويصمد صمود الرُسل، ويقوم في وحدة النبي وإيمان الشهيد يجاهد الإشراك بمصر، والكفران بالأمة، ويقارع بالحجج الثائرة الملزمة طغيان إنجلترا وهي يومئذ علة العلل ودولة الدول؟
أم من الذي ينسى خفقة التضحية القدسية في ذلك الشباب العليل، فيحرك ساكن شعبه