حينما فكر أولو الأمر من أهل السبق في الإسلام في اختيار مبدأ للتاريخ الإسلامي كانت هنالك حوادث ما يزال ذكرها حياً في أذهانهم، يملؤها روعةً وجلالاً.
هنالك حادث الهجرة غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ويوم الفتح - فتح مكة - وهنالك اليوم الذي أنزل الله تعالى فيه على عباده المؤمنين:(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) وغير ذلك أيضاً. كل أولئك وكثير مما لم نذكره، قد كان ماثلاً أمام أولى الأمر من أهل السبق في الإسلام يوم أرادوا أن يختاروا مبدأ للتاريخ الإسلامي، فاختاروا من بين أولئك كله حادث الهجرة - هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة - وبذلك سجلوها ذكرى بين المسلمين متجددة، وأرسلوها فيهم حديثاً مأثوراً وعبرة دائمة.
ما تحسبهم فعلوا ذلك إلا وقد عرفوا لهذه الحادثة من القدر والخطر ما لم يعرفوا لغيرها من الحادثات التي عرفوا، وإن كانت ذات قدر جليل وخطر عظيم.
لقد يبدو غريباً أن يتفق الصدر الأول من بناة الإسلام وأهل السبق والفضيلة فيه على أن ينظروا إلى الهجرة بذلك النظر، وأن يعتبروها أهم الحوادث في الإسلام وأبرزها وأبلغها في نشأته أثراً.
والذين يقرءون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قد يدركون في غير مشقة أن هذه الهجرة كانت في الحق حدثاً ذا شأن عظيم وخطر، فأما أن يبلغ من خطرها أن تكون هي الحادث يغطي على جميع الحادثات، وتغلب ذكراه ذكراها، ويرتفع اسمه فوق أسمائها، فذلك ما قد يبدو غريباً يحتاج إلى شيء من البحث والنظر. بل لقد يبدو لبعض المتعسفين أمر هذه الهجرة وكأنه مظهر من مظاهر الهزيمة، وكأنه عمل من أعمال اليأس والتسليم. وكذلك يظنه بعض الكفار، وكذلك يسميه بعض كتابهم من الإفرنج بالهرب والفرار.
ولعل أولئك الذين يصفون هذه الهجرة بأشنع الصفات، ويدعونها بشر الأسماء، هم الذين سخرهم الله من حيث لا يشعرون ليكشفوا لنا عما أدرك السلف في هذه الهجرة من روعة تتضاءل دونها كل روعة، ومن عظمة لا تدانيها عظمة، ومن حقائق وأسرار ما كنا لنهتدي