على المصطبة الغبراء وفوق حصيرها الخشن جلس (البك) وفي عينيه نظرة يكسر من طولها الخجل، وعلى شفتيه بسمة يمد في عرضها الملق، وفي يمناه مسبحة يقطر من حباتها الرياء، وفي يسراه صحيفة وفدية لا تزال على طية البريد، وتحت قدميه بقية من وحل الشتاء تهدد حذاءه اللامع، وبين يديه وعن يمينه وعن شماله جلس الفلاحون يسارق بعضهم بعضا نظر المستفهم عن سر هذا التواضع الغريب، وسبب هذا التنازل المفاجئ، ورب الدار يذهب ويجيء في ربكة تبدو دلائلها على حركاته المضطربة، وكلماته المتقطعة، وتحياته المتكررة
صحيح أن صاحب المصطبة رفيع الصوت في القرية، نافذ الرأي في الناس؛ ولكنه منذ أيام قلائل كان في (دائرة) البك فريسة لغضبة هوجاء من غضباته أخذته بالشتم واللطم والسخرية، لأنه جرؤ على أن يسأل (الكاتب) عما له من حساب الإجارة، وأن يعترض على (الناظر) فيما عليه من نفقات الإدارة. ومن العسير على المنطق المحض أن يستخرج هذه النتيجة من تلك المقدمة!
كان البك المالك يرد التحيات الساذجة بالانحناء والإيماء والتحني؛ فكأنما انقلب جانبا معطفه الأسود جناحين رءومين يرفرف بهما على بنيه! وكان أكابر القرية قد تسامعوا بمقدم (مالكهم) على حال من التطامن والتبسط لم يألفوها منه، فأقبلوا على المجلس الذي شرفته سيارته بالوقوف عنده
ومهما يكن البك عيي اللسان كليل الذهن فلابد أن يتكلم ليكشف عن سر قدومه. وقد استأذنت الشيخ منصور راوي هذا الحديث أن أترجمه بلغة الناس فأذن
قال البك: لم أزركم منذ خمس سنوات لأن أعمال مجلس النواب لم تدع لي وقتا يتسع للاهتمام أسرتي، ولا للتفكير في معدتي، فكنت في أغلب الأحيان لا آنس بأهلي ولا أهنأ بطعامي. . .
فقال الشيخ منصور مقاطعا: ولكننا يا صاحب السعادة لم نقرأ لك كلمة واحدة في محضر من محاضر المجلس.