للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عبقرية محمد الإنسانية]

للأستاذ أنور المعداوي

إنسان عظيم. . . وذلك اصدق ما يقال فيه وغاية ما يقال.

محمد الرسول في مواقف الرسالة، ومحمد البطل في مواقف البطولة، ومحمد الصديق في مواقف الصداقة، ومحمد الوالد في مواقف الأبوة، ومحمد في كل موقف من مواقف العبقرية يحتل من نفسي مكانا لا يدانيه مكان. . . ولكن جانبا من جوانب هذا العظيم الذي يعلو أبدا فوق مستوى الأقران والنظراء، يهزني هزا عنيفا، كلما تمثلته في طوايا الخاطر أو بعثته من ثنايا الشعور؛ ذلك هو محمد الإنسان!

قد ينظر غيري إلى الجانب الإنساني في حياة الرسول من خلال المنظار الذي ألفه الناس، حيث يتخيلون الإنسانية مجموعة فضائل يجوز أن يشترك فيها العظيم وغير العظيم. . . هذا المنظار الذي ينظر من خلاله إلى إنسانية محمد ممثلة في الرحمة والمودة والألفة والإيثار والعطف، لا يهدئ لصاحبه أن يضع يده على مفتاح هذه الشخصية الفذة في حقيقتها البعيدة، هناك في اعمق الأعماق وأبعد الأغوار.

إنسانية محمد لا توزن في رأيي بذلك الميزان الذي يقام لكل رجل يمكن أن تجتمع فيه تلك الصفات، لتضع بعد ذلك في مواجهة اسمه كلمة (إنسان). . . وإنما توازن الإنسانية في هذا العظيم بميزان اللحظة النادرة من لحظات حياته، حين يقف وحده متفردا في مجال يعز فيه التفرد على كل شبيه وكل نظير. وما أكثر اللحظات النادرة في حياة محمد الإنسان!

أنا أريد أن انظر إلى عبقرية الإنسانية في شخصية الرسول من خلال منظار آخر؛ منظار يحدد الزوايا التي تفترق في المشهد الإنساني عن نظائرها فيما تعارف عليه الناس. . . إذا قلنا أن محمدا إنسان لأنه رحيم فما أكثر الرحماء، وإذا قلنا أنه إنسان لأنه وفي فما أكثر الأوفياء، وقل مثل ذلك في سماحة الطبع والمودة والألفة والإيثار والعطف؛ فما أكثر ما كان يملك أصحابه من كل هذه الفضائل والسمات. . . ولكن محمدا كان يفترق عنهم جميعا في هذا المجال؛ مجال المفاضلة بين (الإنسان) في صفاته العليا التي تقررها موازين القيم والأوضاع، وبين (الإنسان العظيم) في صفاته المثلى التي يعجز عن تقريرها موازين القيم والأوضاع!

<<  <  ج:
ص:  >  >>