كان في مستهل هذا العصر نفر من الأيفاع الخلصاء ينتقلون بين حلق الأزهر كما تنتقل النحل بين قطع الروض، لا يتشممون غير الزهر، ولا يتذوقون إلا الرحيق؛ وكانوا كالفراش رقاق الجسوم خفاف الأجنحة يتهافتون على أضواء النوابغ المعاصرين أينما تشع؛ وكانت الومضات الروحية الأخيرة للبارودي واليازجي ومحمد عبده وقاسم أمين ومصطفى كامل والشنقيطي قد التمعت إلتماعة الموت لتنطفئ كلها متعاقبة في العقد الأول من عقود هذا القرن، فهيأت الأنفس والأذواق إلى أدب جديد كنا نفتقده فلا نجده؛ وكان إخواننا اللبنانيون في مصر وأمريكا قد فتحوا نوافذ الأدب العربي على الأدب الغربي فأرونا فنونا من القول وضروبا من الفن لا نعرفها في أدب العرب؛ ولكنها كانت في الكثير الأغلب سقيمة التراكيب مشوشة القوالب، فأجمناها على نفاستها كما أجمنا أساليب المقامات من الألفاظ المسرودة والجمل الجوف والصناعة السمجة والمعاني الغثة
وحينئذ أشرق أسلوب المنفلوطي على وجه (المؤيد) إشراق البشاشة، وسطع في أندية الأدب سطوع العبير، ورن في أسماع الأدباء رنين النغم، ورأى القراء الأدباء في هذا الفن الجديد ما لم يروا في فقرات الجاحظ وسجعات البديع، وما لا يرون في غثاثة الصحافة وركاكة الترجمة، فأقبلوا عليه إقبال الهيم على المورد الوحيد العذب.
وكان هذا النفر من الأيفاع المتأدبين يجلسون في أصائل أيامهم الغريرة أمام (الرواق العباسي) يتقارضون الأشعار، ويلهون بإغفال الناس، ويترقبون (مؤيد) الخميس ليقرءوا مقال المنفلوطي خماس وسداس وسباع، وطه مرهف أذنيه، ومحمود مسبل عينيه، وفلان مأخوذ بروعة الأسلوب فلا ينبس ولا يطرف. وكلهم يودون لو يعقدون أسبابهم بهذا المنفلوطي الذي اصطفاه الله لرسالة هذا الأدب البكر، وجعله الأمام المفتي تلميذه المختار؛ ولكن المنفلوطي كان في ذلك العهد الذي قرأناه فيه قد جاوز الثلاثين، فهو قليل الإلمام بالأزهر، لا يجلس إلى شيخ ولا يأوي إلى رواق؛ وكان قد هيأ نفسه ليكون كاتباً لا (عالماً) فلم يجعل همه لامتحان، ولم يشغل ذرعه بشهادة.
وبعد سنتين نشر مختار ما دبج من فصوله في المؤيد في كتاب عنونه بالنظرات، وكان قد