رأيت فيما أسلفنا من مستحدثات عهد التطور تلك النظرية الفلسفية العميقة التي تقرر أن الوجود المادي باطل، ولكنه مشتمل في داخله على جوهر سام هو وحدة الحقيقة في كل موجود، ورأيت كذلك أن هذه النظرية لم تقتصر على كائن في الوجود دون كائن، فهي قد تناولت الآلهة والأناس والحيوان والنبات، غير أن أهم ما يعني الباحث في هذا الجوهر الحق المختبئ وراء الأستار المادية إنما هو النفس.
وقد عني خاصة اليهود بها عناية شديدة منذ أقدم عهودهم بالتفكير، فقرروا أنها هي الجوهر الحق في الإنسان؛ ولذلك أطلق عليها أسم الإنسان لأنهم اعتبروا الجسم بدونها باطلاً لا يستحق أن يدل على الإنسان كما تدل عليه النفس. ولا شك أن الباحث حين يتأمل هذه النظرية للوهلة الأولى يلمح فيها عناصر نظرية (أفلاطون) في النفس والمادة حيث يقرر أن النفس هي وحدها النور الخالد والحق الأسمى في الإنسان، أما الجسمان المادي فأنه خيال باطل لا تطلق عليه كلمة (حقيقة) إلا تجوزاً، لحلول النفس فيه ولصوغه على نماذج المثل التي أبنا أن عناصرها مصرية.
ويرى فلاسفة الهند أن النفس جاهلة بالفعل عالمة بالقوة، وأن الجهل والعلم صفتان متعاقبتان عليها باختلاف الظروف والأحوال. ولا جرم أن الهنود قد سبقوا (أرسطو) بعدة قرون إلى نظرية جهل النفس بالفعل وعلمها بالقوة وفوزها بالعلم الفعلي عن طريق الكسب والتجربة، تلك النظرية التي يبسطها أرسطو بسطاً واضحاً حين يرد على أفلاطون القائل بأن النفس كانت عالمة بالفعل قبل أن تحل الأجسام المادية ثم نسيت تلك المعارف بعد حلولها في المادة الكثيفة، وهي الآن لا تتعلم شيئاً جديداً، وإنما نتذكر ما كانت قد تعلمته في