لا كلمة الآن أشد سحراً وأكثر دوراناً على ألسنة الساسة من كلمة السلام، فهم يرسلونها في خطبهم العالمية والمحلية حتى لتظنهم ويظنون أنفسهم خلفاء الرسل في الدعوة إلى سلام الأرض
وقد بنوا لهذه الكلمة الساحرة بيتاً عالياً في جنيف له سدنة وكهان وحجاب، وكل هذا (كالعروض): بحور بلا ماء!
ولا أعرف ديناً عنى بترديد هذه الكلمة على أسماع أهله في الخلوة والجلوة وتثبيتها في طباعهم كما عنى الإسلام
بل إن الإسلام والسلام كلمتان متداخلتان مادة ومعنى. ويعرف كل من له إلمام بفقه اللغة العربية وخصوصاً قانون (تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني) أن هاتين الكلمتين ليس بينهما من فرق في المعنى إلا بمقدار ذلك الفرق الضئيل في اللفظ
وأنا الآن بمعرض بيان الأسس التي وضعها الإسلام لضمان السلام في النفس، وبين الطبقات في الشعب، وبين الأمم في الأرض
وأول ما يسترعي النظر هو أن تحية المسلمين هي إلقاء كلمة السلام. وما أجد تحية أقرب مناسبة لكل وقت كهذه التحية، وهي في الواقع بمثابة عهد بين البادئ والمجيب، على ألا يمس أحدهما الآخر بسوء. وفي البادية يفهمون لها هذا المعنى الجميل فيرافق المجيب البادئ إلى آخر حماة حتى لا يصاب بسوء ما دام في حماه، بعد هذا التعاقد
وفي الصلاة الإسلامية ترديد كثير للسلام؛ حتى ليصح أن نطلق على التشهد (نشيد السلام) ففيه سلام على النبي صلى الله عليه وسلم وفاء له وذكرى بين يدي الله، وسلام على النفس لبعث الطمأنينة وإشاعة معناها في الروح وإيحاء ذاتي إلى القلب بذلك المعنى، كما يشير بذلك علم النفس الحديث، وسلام على العباد الصالحين يرسله المصلي إليهم في غيبتهم وغيبوبته هو في مقام الله، وكأنه يتعهد أمام الله ألا يمس أحداً من رجال الإصلاح بسوء، ثم تنتهي الصلاة بسلام عن اليمين والشمال يستأنف به المصلي عودته إلى ملابسة أمور الحياة. ذلك موقف هو أعظم مواقف التصفية للنفس المسلمة في حياتها اليومية،