أمسكنا عن الحديث في محنة الكاتبة النابغة مي ضناً على فضول الناس أن يتخذ أرجح العقول وأبرع الأذهان مجلاً للظنون الكاذبة وموضعاً للفروض الجريئة. وكنا منذ سفرها إلى الجبل منذ عامين نتنسم أخبارها من كل مصري يصيف في لبنان، وسوري يشتي بالقاهرة، فلم يقع لنا من ذلك ما ينقع الشوق أو يطمئن الخاطر، حتى أخذت صحف بيروت في الأسابيع الأخيرة تذكر من حال الكاتبة الجليلة ما يثير الهم في الصدور ويضرم الحزن في الأفئدة، وحتى أهاب رئيس المجلس النيابي السوري بأعضاء المجلس النيابي اللبناني وهو يزور ندوتهم في منتصف هذا الشهر قال:
(كيف لا تهتمون بهذه النابغة اللبنانية؟ وكيف تسجن (مي) بين جدران أربعة في مستشفى المجانين ولا يثور الرأي العام اللبناني ويظل هذا الخبر سراً مكتوماً؟ لقد كان حديثها لي حلواً لا إبهام فيه ولا تعقيد. لقد وجدت فيها (مي) الكاتبة الشاعرة التي عرفناها في الماضي، فكيف دبرت هذه المؤامرة الدنيئة على نابغة النابغات؟ أنقذوا مي وابذلوا جهدكم في الترفيه عليها. وحرام أن تعامل الأنوثة التامة والنبوغ والعبقرية هذه المعاملة التي عوملت بها مي)
وجرائد بيروت آذانها أقرب إلى استقطار الخبر على صحته، والأستاذ فارس الخوري بك ممن يعتقد قوله ويعتمد خبره، والقنصل المصري سمعنا أنه تدخل في الأمر؛ وتدخله دليل على أن هناك مجانفة للحق ومخالفة للعدالة؛ فلم يبق إذن شك في أن صديقتنا (مي) تكابد من ظلم القدر ولؤم الناس ما لا يجوز الصبر عليه ولا ينبغي السكوت عنه
كانت مي في النصف الأول من سنة ١٩٣٥ مرهفة الطبع جمة النشاط دائبة الإنتاج لا تبخل بظرفها وأدبها على سامر ولا صحيفة؛ وكان أكثر نشاطها حينئذ مصروفاً إلى مجلة الرسالة ومحطة الإذاعة. ومن أثر ذلك تلك المسابقة الأدبية التي اقترحتها على الشعراء، وذلك (المجلس النادر) الذي أقامته للصلح بين بعض الأدباء. وكانت في مجالسها الخاصة تصرف الكلام وتساجل أعيان الأدب ببديهة حاضرة ولقانة عجيبة، تمثل لك صورة من صور أولئك الأديبات اللآتي أنشأن باستعدادهن للأدب مجالس في عهوده الزاهرة، كسكينة ابنة الحسين، والولادة ابنة المستكفي، ومدام دي رمبوييه، ومدام جوفرين، والأميرة نازلي فاضل، وأضرابهن ممن وفَّقن بين اللغة والبلاغة، وبين الأدب والذوق، وبين الفن والسمو؛