من أول ما تعلمته في حياتي أن الدنيا لي ولغيري، وإني لم أعطها وحدي، ولا أعطيها سواي ملكاً خالصاً له، ونحن جميعاً شركاء متكافئون في الحقوق، وعلينا من أجل ذلك واجبات متماثلة. وما دمنا شركاء إلى حين، وما دام أن المقام في الدنيا على كل حال قليل، فإن من الحماقة أن ننغص على أنفسنا هذه الحياة القصيرة بالعنت، أو أن تؤثر التي هي أخشن على التي هي أحسن في سيرتنا، وقد كنت أحمق الحمقى في صدر حياتي، وما زالت بي بقية غير هينة من الجماقة، فما انفكت الدنيا تنفضني كما ينفض الأسد فريسته، وتشيلني وتحطني، وترجني وترميني من هنا وههنا، حتى فاءت بي إلى الرفق والهوادة فأرحت واسترحت
أي نعم، تتسع الدنيا لي ولغيري، وتستغني عنا جميعاً! وليس أضل رأياً من يتوهم أن الحياة لا تطيب له إلا إذا خلا طريقه فيها من الناس. وما أحكم قول الإنكليز في أمثالهم:(عش، ودع غيرك يعش)! وما على المرء إلا أن يفكر فيما عسى أن تخسر الدنيا إذا هي خلت من الناس وعادت خراباً يبابا؟ لا شئ! لن يكف الفلك المسير عن الدوران، ولن يعوق الشمس شئ عن الطلوع والأفول، ولن تعدم الحياة على الأرض مظهراً آخر تتبدى فيه كما تبدت فينا نحن بني آدم! وهل نحن إلا صورة من صور الحياة؟ وهل أعظم غروراً أو أقل عقلا ممن يكبر في وهمه أن الحياة تنعدم إذا انقرض الإنسان وتقلص ظله عن الأرض؟
ولا يتوهم أحد أن هذا كلام زاهد أو متزهد، فما أنا بهذا ولا ذاك، وإني لمن أشد الناس رغبة في الحياة الرضية، ونشداناً للعيش الرغيد، وطلباً لأطايب الدنيا، وعكوفاً على متعها المشتهاة، وكل ما في الأمر أني لا أرى أن فوزي بما أبغي لا يستوجب أن يحرم الناس غيري ما يطلبون، أو أن يخيبوا ويخفقوا. وأي دنيا تكون هذه إذا كان نجاح فرد فيها وتوفيقه في إدراك آرابه لا يتسنى إلا بخيبة الباقين؟ ثم أني لا أحس أن الناس بنافسونني أو يزحمونني أو يضيقون علي المجال، فإن الأرض رحيبة، ومجالاتها لا آخر لها، وما رأيتني عجزت قط عن اختراع طريق بكر، أو الاهتداء إلى ميدان جديد، إذا شعرت