إن لآسية شأنا عظيما في حياة أوربة التي تنتفع بثروات هذه القارة وتعرف قيمتها؛ ولذا كثرت مسائل الشرق الأدنى والشرق الأوسط وتشابكت، وأصبح فهمها على حقائقها وإدراك أخطارها يوجبان النظر في أصلها القديم وفي ما يؤثر فيها من عوامل لمنافع الدول المستعمرة المختلفة ومصالحها ومطامعها وتنافسها، وفي تعارض مساعي هذه الدول أو توافقها في مواقف السياسة الدولية تبعاً للأحوال والضرورات
فما يقع في هذين الشرقين من الحوادث السياسية ليس يتبين على حقيقته كلها للنظر السطحي في صورته الظاهرة المزخرفة بألوان من الدعايات ومن وحي الأغراض أو الأهواء أو المحازبات أو المسايرات. ولابد لمعرفة الحقيقة المنشودة من تأمل هذه الحوادث في ضوء ينشره عليها البحث في الدوافع الطبيعية وفي تنافس المستعمرين ومصالحهم الأساسية
يزحف الأسيويون إلى الغرب والغربيون إلى الشرق من القدم. ولهذا التزاحف أسباب طبيعية وفطرية، ودواع من مصالح أساسية حيوية وراء العلل الظاهرة والحجج السياسية.
ومن هذه الأسباب والدواعي والعلل نشأ ما سموه مسألة الشرق. ويمكن رد نشأتها إلى العصر العهيد الذي وقعت فيه حرب طروادة، وقد اختلفت أوضاعها في مجرى التاريخ، وهي من أجل مسائل السياسة الدولية شأنا منذ فتح العثمانيون قسطنطينية عام ١٤٥٣. وكان موضوع المسألة في ذلك العهد دفع العثمانيين عن أرض أوربة إلى آسية، فلما بدأ ضعف إمبراطوريتهم صار موضوع المسألة: لمن يكون إرث استنبول العظيم؟
أهمت مسألة الشرق في أول الأمر دول النمسا وروسيا والفاتكان، ثم أخذت من صدر القرن التاسع عشر تهم فرنسا وإنجلترا رأسا، فقد قوى موقف النمسا أمام العثمانيين في الثلث الأول من القرن الثامن عشر، ونالت منهم روسيا في ذلك القرن منافع كبيرات، فصار موضوع المسألة: هل تحفظ أوربة كيان الدولة العثمانية أو تتركها للتهديم؟ لأن التهديم معناه الإنتهاب وطغيان المنتهب وسيادته، أو خطر الاختلاف في الاقتسام. وقد عظم شأن هذا الأساس من المسألة بالتضاد الدائم بين الترك والعناصر المسيحية البلقانية التي كانت