للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[أحلام السلام]

وكيف انهارت في خمسة عشر عاماً؟

للأستاذ محمد عبد الله عنان

كان حلماً لم يطل أمده أكثر من خمسة عشر عاماً؛ ذلك هو حلم السلام الذي توهمت أوربا وتوهم العالم أنه سينعم في ظله حقبة من الزمن تكفي لبرء ما أثخنه من جراح، وما أصابه من استنفاد وتخريب وتحطيم. وقد لاح للإنسانية مدى حين أنها تستقبل عصراً جديداً من السلام والإخاء الدولي والتفاهم الحسن، واعتقدت الشعوب مدى حين أن قيام عصبة الأمم، وعقد مواثيق التحكيم، والتبشير بنزع السلاح، إنما هي عناصر جديدة في بناء العالم الجديد، وإنها الدعائم الأولى لصرح سلام جديد لا تزعزعه الشهوات القومية والنزعات الحربية؛ واستمر هذا الحلم يسطع حيناً ويخبو حيناً، زهاء عشرة أعوام، وبلغ ذروة قوته وروعته حينما عقد ميثاق تحريم الحرب الأمريكي، ونص فيه على أن الحرب قد حرمت كأداة للسياسة القومية، وتعهدت الدول بألا تلجأ في تسوية منازعاتها لغير التفاهم والتحكيم

ولكن حلم السلام تبدد فجأة، فرفعت عصبة الأمم قناعها المموه، وانهار مؤتمر نزع السلاح، وظهر أن ميثاق تحريم الحرب لم يكن أكثر من قصاصة ورق، واختفت أصوات الساسة الذين يستظلون بأحاديث السلام، وعلت كلمة الداعين إلى التسليح، وإلى تحطيم المعاهدات القديمة، وإلى الانتصاف القومي، وإلى تحقيق المطامع الاستعمارية. ولم يكن هذا التحول مفاجأة لأولئك الذين يعرفون سير التاريخ، ويستشفون طرف الحقيقة من وراء المظاهر الخادعة، ولكنه كان بالطبع مفاجأة أليمة للشعوب الآمنة التي ما زالت تحتمل على كاهلها كل عبء وكل تضحية في سبيل الشهوات السياسية والقومية، والتي ما زالت ترتجف فرقاً لذكريات الحرب الكبرى

كان مؤتمر الصلح الذي عقد في فرساي بين مارس ويونيه سنة ١٩١٩، أعظم مؤتمر دولي شهده التاريخ، وكانت معاهدة الصلح التي تمخض عنها هذا المؤتمر أعظم معاهدة عقدت بين الأمم، وأوسعها مدى، وأبعدها أثراً في سير التاريخ وفي تغيير أوضاع العالم الحديث؛ بل كانت معاهدة فرساي في الواقع دستوراً جديداً للعالم، تغير كثيراً من معالمه الجغرافية والتاريخية، وتقرر حدوداً جديدة، وتنشئ أمماً ودولاً جديدة، وتقضي على أمم ودول أخرى

<<  <  ج:
ص:  >  >>