(أنشودة الزمن خلدت في ذاكرة الناس) هذا ما ألفاه شاعر في التاريخ. وما يجده الشاعر في قراءة التاريخ لا يختلف كثيراً عما يجده الفيلسوف أو المؤرخ. فالفيلسوف يجد التاريخ طرائق متعددة للحياة الإنسانية، ويسمع فيه صوتاً خالداً يردد قوانين الحق وأصداء الباطل، ويدرس فيه الفلسفة دراسة الواقع. وأما المؤرخ فيجد متعته في الوصول إلى الحقيقة، وذلك بدراسة الآثار والوثائق التي خلفتها الإنسانية في مناحيها المادية والروحية.
ويتساءل المؤرخون فيما بينهم عن موضوع علم التاريخ. هل التاريخ سيرة الملوك والأمراء، أم هو سيرة الشخصيات الكبيرة والأبطال الذين قادوا الأمم وغيروا مجرى حياة الشعوب؟ هل التاريخ قصة لحياة طبقة دون سواها؟ هل التاريخ دراسة للناحية السياسية فحسب، أم هو شامل للنواحي الاقتصادية والاجتماعية والعقلية والفنية للحياة الإنسانية؟ ولعل الرأي الذي يقول بأن التاريخ يبحث في حياة الإنسان في الماضي من كل نواحيها وفي تطورها ونموها أقرب إلى الحقيقة. ولكنا نرجع فنجدد دراستنا للحياة الإنسانية بالمدة التاريخية، وهي المدة التي وجدنا لها آثاراً ومخلفات نستطيع الاعتماد عليها والوثوق بها. فالتاريخ يعرض أمامنا ثمرات العقل الإنساني والعاطفة الإنسانية من أدب وعلم وقوة ودين، يرينا ما مرت به الدول والشعوب والطبقات والأفراد من محن ومصاعب وما سمت إليه من مجد وعظمة: هو يوضح لنا التطور السياسي والاجتماعي والفني.
شعر الناس منذ القدم بما للتاريخ من قيمة، فعنوا بدراسته وسارعوا إلى تدوين أخبار الإنسانية على صفحات الذاكرة، ثم على مبانيهم ومنشآتهم، ثم سجلوها في كتبهم، وهم يحسون بضرورة صيانة تراث الآباء والأجداد. على أن قيمة هذه الأخبار تتباين في أنظارهم بتباين الزمان والمكان، فحينما كان التاريخ قصصاً يختار الرواة من حوادثه ما يبهرهم ويثير إعجاب الجمهور كانت قيمته في التسلية وكسب الرزق. وحينما تغلبت فكرة السياسة أو الأخلاق، أو الدين أو الاقتصاد أصبح التاريخ يخدم غرضاً سياسياً، دينياً أو اجتماعياً. ثم لما اهتم المؤرخون بتنظيم حقائقه وترتيب وقائعه، ونقدها، كانت قيمة التاريخ