في أواسط القرن الرابع الهجري ذهبت سطوة الخلافة العباسية واستبد بالخلفاء مواليهم من فرس وديلم وترك، وساموهم الخسف وسوء العذاب، فاستقل كثير من الأمراء عن بني العباس وأسسوا دويلات صغيرة: كآل بويه، وأل حمدان، والساسانيين وغيرهم، ولم يبق للخليفة من مظاهر القوة شيء.
بيد أن هذا الانحطاط السياسي في الدولة لم يمنع الحياة العقلية من الازدهار لتنافس الأمراء في تقوية دويلاتهم علمياً وأدبياً؛ فنما الشعر ونضج التفكير، واشتدت حركة النقل والبحث في العلوم الفلسفية على اختلاف شعبها ثم هضمها وصبغها بالصبغة الإسلامية.
وكان من عواقب الانحطاط السياسي للدولة العباسية تكوين كثير من الجماعات السرية وغير السرية التي تحاول القضاء المبرم على العباسيين حتى تضع غيرهم مكانهم، أو توجد لنفسها كياناً مستقلاً. ومن هذه الجمعيات التي ظهرت في منتصف القرن الرابع الهجري (جماعة إخوان الصفاء) وهم من الشيعة الباطنية الذين لم يرضوا عن الخليفة العباسي كما لم يرضوا عن الخلافة الفاطمية في مصر. وحاولوا قلب النظام السياسي بقلب التفكير العقلي وإيجاد ثقافة جديدة يعتنقها شباب عصرهم مقتفين في ذلك أثر الفيتاغوريين وأفلاطون. ومن المعلوم أن الفيتاغوريين كانوا جماعة سرية إصلاحية حانقة على نظام الحكم اليوناني وأنهم حاولوا تغييره بخلق مذهب جديد ونظريات حديثة عن العالم ونشأته داعين إلى الزهد والتقوى. ومن المعلوم كذلك أن أفلاطون كان ساخطاً على حكومة أثينا. فلا الأرستقراطيون أرضوه لما يرتكبونه من ظلم وجور، ولا الديموقراطيون حققوا آماله للفوضى التي ضربت خيامها في أثينا؛ وذلك حد في وضع منهج جديد للحكومة في كتابه الجمهورية وإن كان قد فشل حينما حاول تطبيقه عملياً.
أما إخوان الصفاء فقد نالوا شيئاً من النجاح لأنهم من الإسماعيلية الباطنية. وهؤلاء قد استطاعوا أن يوجدوا لأنفسهم كياناً سياسياً مكن لهم في بعض الأرض ونشر الرعب في العالم الإسلامي. وسنرى فيما بعد أدلتنا على أنهم من الإسماعيلية بل إن رسائلهم هي