للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الرسالة تحتجب!]

في الوقت الذي كانت (الرسالة) تنتظر فيه أن يحتفل أصدقاؤها وقراؤها، وأولياء الثقافة والصحافة في وادي النيل، وزعماء الأدب والعلم في أقطار الشرق، بانقضاء عشرين سنة من عمرها المبارك المثمر؛ وفي الوقت الذي أشرق فيه على مصر صباح الخير بثورة الجيش المظفر، بعد ليل طال في الظلام، وافتر ثغر الأمل، وشعر كل مصري في ظلال العهد الجديد أن وجوده إلى سمو، وعمله إلى نمو، وأمره إلى استقرار؛ نعم في هذا الوقت الذي نشأ فيه لتوجيه الإرشاد وزارة، ولتنمية الإنتاج مجلس، ولتعميم الإصلاح خطة، تسقط (الرسالة) في ميدان الجهاد الثقافي صريعة بعد أن انكسر في يدها آخر سلاح، ونفد من مزودها آخر كسرة؛ فكأنها جندي قاتل اليهود في فلسطين على عهد فاروق، أو فدائي جاهد الإنجليز بالقناة في حكومة فاروق! ولكن فاروقاً دال ملكه وزال حكمه، فبأي سبب من أسباب الفساد يؤتي المجاهد من جهة أمنه لا من جهة خوفه، ويقتل بيد شيعته لا بيد عدوه؟

تموت الرسالة اليوم في ضجة من أناشيد النصر في مصر، وأهازيج الحرية في السودان، فلا يفطن إلى نزعها هاتف، ولا يصغي إلى أنينها منشد! ومن قبل ذلك بشهر ماتت أختها (الثقافة) وكان الناس يومئذ في لهو قاصف من مهرجان التحرير، فلم تبكها عين قارئ، ولم يرثها قلم كاتب! كأن عشرين سنة للرسالة، وست عشرة سنة للثقافة قضتاها في خدمة الأدب واعلم والفن والإسلام والعروبة لم تهيئ لهما مكاناً في الوجود، ولم تنشئ لهما أثراً في الخواطر! وكأن هاتين المجلتين اللتين أنشأنا في أدب العصر مدرستين نشّئ فيها جيل، وابتدأت بهما نهضة، واجتمعت عليهما وحدة، لم تكونا إلا ورقاً مما ينشر في الطريق للإعلان، يجيء به الموزع وتذهب به الريح!

وما أحب أن أحمل تبعة ما أصاب الرسالة والثقافة على زهادة الناشئين في الأدب الجد، ولا على فشل المعلمين في تعليم القراءة؛ فإنا اخترنا هذا النوع من الصحافة ونحن نعلم ما يعترضه من عوائق، وما يكتننفه من مكاره، أقلها هذه الأمية المدرسية التي تقنع من الثقافة (بفك الحظ) وقشور العلم، فلا تهيئ المصاب بها إلا للقراءة السهلة الضحلة، ليرى نكتة تملأ فمه بالضحك، أو صورة تدغدغ جسده بالشهوة!

اخترنا هذا النوع من الصحافة المجاهدة المستشهدة، ووقفنا بالرسالة على الأعراف بين آخر النقص وأول الكمال، تأخذ بيد الأدنى ليصعد، ونثبت قدم الأعلى ليستمسك؛ ثم تدفع

<<  <  ج:
ص:  >  >>