التشاؤم طبيعة العقل المتيقظ الذي فتح عينيه فرأى نفسه في القافلة البشرية فأخذ يسأل نفسه: لِمَ يمشي؟ ومن أين إلى أين؟ ولكنه لبث يمشي. . . وكيف لا يتشاءم العقل حين ينظر إلى الكون ويحاول أن يحكم على أشيائه بميزانه، فيجد قاعدا ما كان يجب أن يكون قائما، وقائما ما كان ينبغي له أن يكون قاعدا. هذه النظرة الأولى التي تبدأ في العقل حين يتيقظ وعلى مقدار سعة دوائر العقل تتسع هذه الآماد وتتباعد هذه الدوائر. وهنا يعود العقل في كل مراحله خاسئا يحمل غلى النفس خيبته في رحلته، فتلقاه حاملا الشقاء دون عزاء والحيرة دون إيمان، والنفس إزاء هذا القلق العميق إما أن تعود إلى نفسها ويلتف بعضها على بعضها التفاف الأفعى، تخلق من نفسها العزاء في هذه الحياة؛ وسواء عندها أن تخلقه من إيمان تفرضه أو تفاؤل تؤمن به، فترى في الحياة إشراقا ولا إشراق وبهجة ولا بهجة، فتتغنى مغتبطة بهذا التفاؤل الذي هو وليد ذلك التشاؤم المبطن به، وإما أن تعود ولا تكسب من التشاؤم إلا التشاؤم.
وقد يكون هذا التشاؤم عاما يمثل رسالة الإنسانية المتألمة، وقد يكون خاصا يمثل رسالة الشاعر نفسه، يضع فيها آلامه ولا يتصل بالإنسانية إلا بقدر ما تريد نفسه أن تتصل بها. وآفاق التشاؤم أوسع مدى، وأصحابه أكثر نبلا لأنهم أفنوا ذواتهم في الذات الإنسانية، وأصبحت تتمل فيهم كل آلامها وأوجاعها، لأن الإنسانية ذاتها تجهل ما تريد من الكون وما يراد منها. وآفاق التشاؤم الخاص ضيقة محدودة تدل على أنانية أصحابه، إذ لو أن حظا من حظوظ الحياة الضائعة أتاهم لبدل نظراتهم في الكون ولون لهم شمسا جديدة بألوان غير ألوانهم
ولكن التشاؤم لا تتحد نتائجه؛ فمن التشاؤم ما يذهب بصاحبه إلى الاستسلام حين يؤمن بعجزه، وإلى الزهد حين يؤمن بفناء الحياة، وهذا أقبح التشاؤم وان يكن أصدقه عند العقل. ومن التشاؤم ما يثير في النفس قوى المقاومة فيها بالعنف والشدة، وبهذا التشاؤم تعتز الحياة وتشرق ألوانها القاتمة؛ فشوبنهاور ونيتشه رجلا تشاؤم حالك اللون، ولكن تشاؤم شوبنهاور