بداوة الأمة هي عهد طفولتها؛ فيها يكون أدبها ساذجاً على صدق عاطفته، ضئيل الحظ من الفكر المستقيم على قوة شعوره؛ ويشبه دخول الأمة طور الحضارة والثقافة بلوغ الناشئ الحلم؛ إذ تنضج أفكارها ويتنبه وعيها بما يحيط بها من مظاهر الكون ويزداد تأملها فيها واتصالها بها؛ ومن ثم يزداد اثر الفكر السليم والنظر الثاقب في آدابها بجانب الشعور الحار والعاطفة المتدفقة؛ على انه لما كانت العاطفة عادة تقتصر على فريق من أبناء الأمة دون فريق، فأنه يصير للامة المتحضرة أدبان: أدب راق للخاصة وأدب عامي للدهماء؛ ولا ريب انه كلما ازداد انتشار التعليم في الأمة كان ذلك كسباً للأدب الراقي؛ ولم توجد بعد الأمة التي يتوحد فيها الأدبان
وتزداد الهوة بين الأدبين تدريجيا بارتقاء الحضارة وازدهار الثقافة وترفه المجتمع: فتدخل الأدب الراقي النزعة العلمية، وترتقي لغته وتتسع جوانبها، وتتهذب لهجته وترق حاشيته، ويزداد تراثه من جيل إلى جيل لاستعانته بالكتابة؛ أما الأدب العامي فيتداول بالرواية، ولذا يظل في تجدد وتحول وزيادة ونقص؛ تلونه المجتمعات المتعاقبة بألوانها، وتترك فيه العصور المتوالية مياسمها، ويظل ساذجاً كأدب البداوة الأولى: يهتف بالغرائز والعواطف البسيطة، ويتحدث بأحلام النفس الإنسانية في السعادة المطلقة وميلها الدائب إلى الجمال والقوة والحق والفضيلة، ويظل على ما يشوبه من خرافة وغرارة هو الثقافة الوحيدة التي تتمتع بها الطبقة العاملة
وقد كان للعرب على عهد حضاراتهم أدبان كذلك: ساعد على قيام الأدب الراقي اعتداد أشراف العرب بأدبهم القديم، وتمسكهم بلغتهم، وانتشار الثقافة والعلوم التي ورد مناهلها فريق من الأمة دون فريق؛ ساعد على ظهور الأدب العامي اختلاط العرب بالأمم وفساد لغة الكلام. وصار للإنجليز كذلك أدبان منذ تحضروا وتثقفوا وامتزجت اللغة الانجلوسكسونية باللاتينية، واستخدمت في العلوم والآداب، وتوطدت قواعدها واتسعت جوانبها وأصبحت لغة مجتمع راق. فانفصال الأدبين الخاص والعامي أحدهما عن الأخر جاء مختلف الكيفية في الأمتين: ظهر الأدب العامي في العربية بفساد اللغة الفصحى