في دار النيابة زوبعة نائمة ينتظر نواب الأمة أن يثيروها عندما يعرض الاستجواب الخاص بالتحقيق في مزرعة الجبل الأصفر. وبذلك سجلت هذه المزرعة لنفسها تاريخا خاصا وأثارت في نفوس القراء فضولا رأينا أن نشبعه بأن نقدم للقراء وصفا شاملا لما يحدث في تلك المزرعة متوخين في تحثنا أن نكون بعيدين كل البعد عن السياسة ومراميها.
الأرض المتمردة
على مسير٢٠ دقيقة من المرج معهدان أولهما مستشفى المجانين، والثاني مزرعة الجيل الصفر. وكلاهما يقع في الصحراء بعيداً عن الناس. ففي الأول أناس اقتضت التقاليد عزلهم لما أصاب مراكز التفكير فيهم من خلل؛ وأما الثاني فبرغم بهائه ونضرته، وعلى رغم زرعه وضرعه، لم يجد الناس مندوحة من إقامته بعيداً عن عيونهم وأنوفهم، فمواد سماده من فضلات المجاري، فهي خطر على الصحة العامة لما تنقله من الجراثيم، وهي خطر على حاسة الشم لأن رائحتها كريهة، وهي خطر على المزاج لأنها تعكر صفوه وتشيع في الإنسان الكآبة: ولذلك اقتضت ضرورة الذوق السليم أن تخط مزرعة الجبل الأصفر في بقعة نائية من الصحراء
ولا يربط هذين المعهدين بالمرج إلا خط حديدي مفرد تسير عليه مركبة الترولي مرات معدودات أثناء النهار عندما ينتقل إلى سكان المزرعة البريد اليومي أو يحاول أهلها الاتصال بسكان العالم عن طريق الرسائل. ولو استطاعت الصحراء أن تتحدث لاتهمت المزرعة بالجنون كما اتهم به الناس سكان المعهد المجاور، فكلاهما خارج بل متطرف في الخروج على مألوف بيئته، فأينما وقفت من أطراف المعهدين تجد الأفق ينطبق على رمال الصحراء سوى هذه البقعة، فقد تمردت بفعل الإنسان فأرسلت من جوفها إلى العالم حياة طافحة بالخير والشر، وأشجاراً باسقة تعطي الظل والخشب، وأثماراً تدر على الإنسان