طالما سمعتك يا صديقي تقول: إن الشعر أسمى أنواع الأدب وأعلاها، وإن الشعراء يسمون بالإدراك الإنساني إلى مراقي وعرفة الحياة، وإنهم مصابيح النفوس، ومنارات الأفئدة، ومشاعل الأذهان، ولهب الأرواح؛ وإن الحياة بغير الشعر وبدون الشعراء ليست إلا صحراء تصفر فيها أبالسة المادة وترقص شياطين الشهوات على عاصف رمالها.
وكنت تقول: إن الشعراء جلبوا من دموع الأسى والأحزان، ومن بسمات الفرح والغبطة، وإنكم كونتم من أنفاس الثكالى ومن مرح الفتيات المرحات. وان قلوبكم بقدر ما هي لينة يذيبها الوجد، هي صلدة صارمة، إن تأثرت من النظرة الحنون، أو من الحدث الاجتماعي، أو من أي أمر يمس الحرية، أو مسألة تدنو من الإنسانية، تغرد أو تزمجر. إن غردت سحرت الإنس وأسكرت الجن، وإن زمجرت طوحت بالتيجان والعروش، وأودت بالطغاة والجبابرة إلى الدرك الأدنى من أودية الجحيم.
وقلت يا صديقي إن الشاعر يسبق جيله، يحسن بما تختلج به الأفئدة، وتدرك بلمحة خاطفة من لمحات ذهنك اللامع ما يجول في الصدور، فتصور ببراعة العبقري أحاسيس النفوس في شتى انفعالاتها، وترسم بنظمك الموسيقى الموزون مشاعر أمتك في مختلف أحوالها.
إن ادعاءك هذا هو الحق المبين؛ ولكن هل علمت يا صديقي الشاعر، أعزك الله وأبقاك، ماذا حدث في مصر وما طرأ عليها من طوارئ وإحداث منذ هل عام ١٩٥٢ حتى أدركه المحاق؟ هل نقل لك الرواة خبر فئة من العسكريين قامت بعمل من الأعمال؟ هل دريت أن فاروقا الذي طالما سخرت من القمر بدرا إذا شبه بسناه، ومن الزهر عطراً نظراً إذا قورن بشذاه، فاروق ذلك الذي قلت فيه (إن أخلاقه الشخصية قدوة للمصريين) وإنه مثال الأخلاق العالية والنفوس الرضية! إنه أصبح أحدوثة يتندر العالم بأفاعيلها! وسطوراً في سجل التاريخ، وإنه لن يرى مصر أبداً ولن تضم رفاته أرض مصرية قط!
لست أدري يا صديقي الشاعر إذا كنت أحسست طغياناً وقع، أو شعرت بالحرية مست، أو بالحقوق ديست، أو بالأعراض استبيحت، أو بالأرواح أزهقت، لا بأيدي زبانية فاروق بل بيد فاروق وبأمره! أكبر ظني إنك لا تدري شيئاً من ذلك.