تتأثر اللغة أيما تأثر بحضارة الأمة، ونظمها وتقاليدها، وعقائدها، واتجاهاتها العقلية، ودرجة ثقافتها، ونظرها إلى الحياة، وأحوال بيئتها الجغرافية، وشئونها الاجتماعية العامة وما إلى ذلك. فكل تطور يحدث في ناحية من هذه النواحي يتردد صداه في أداة التعبير. ولذلك تعد اللغات أصدق سجل لتاريخ الشعوب: فبالوقوف على المراحل التي اجتازتها لغة ما، وعلى ضوء خصائصها في كل مرحلة منها، يمكن استخلاص الأدوار التي مرَّ بها أهلها في مختلف مظاهر حياتهم.
فكلما اتسعت حضارة الأمة وكثرت حاجاتها ومرافق حياتها ورقى تفكيرها، وتهذبت اتجاهاتها النفسية، نهضت لغتها، وسمت أساليبها، وتعددت فيها فنون القول، ودقت معاني مفرداتها القديمة، ودخلت فيها مفردات أخرى عن طريق الوضع والاشتقاق والاقتباس للتعبير عن المسميات والأفكار الجديدة، وهلم جرا. واللغة العربية أصدق شاهد على ما نقول، فقد كان لانتقال العرب من همجية الجاهلية إلى حضارة الإسلام، ومن النطاق العربي الضيق الذي امتازت به مدنيتهم في عصر بين أمية إلى الأفق العالمي الواسع الذي تحولوا إليه في عصر بني العباس، كان لهذين الانتقاليين أجلّ الأثر في نهضة لغتهم ورقي أساليبها، واتساعها لمختلف فنون الأدب، وشتى مسائل العلوم.
وانتقال الأمة من البداوة إلى الحضارة يهذب لغتها، ويسمو بأساليبها، ويوسع نطاقها، ويزيل ما عسى أن يكون بها من خشونة، ويكسبها مرونة في التعبير والدلالة. وإن موازنة بين حالة اللغة العربية في عهد بداوة العرب قبل الإسلام وحالتها في عهد حضارتهم الإسلامية، أو بين ما كانت عليه عند أهل البادية في عصر ما وما كانت عليه في الحضر في نفس هذا العصر لأصدق برهان على ذلك. وإن البدوي الذي لم يلهمه شيطانه في مدحه للأمير أحسن من قوله: