اطلعت على كلمة في العدد ٦٤٩ من الرسالة، لحضرة الأستاذ الحقوقي البغدادي الذي لم يشأ أن يعرب عن اسمه الكريم، ولكني - مع ذلك وقبل الرد عليها - أود لو يتقبل مني الأستاذ تحيتي وشكري وثنائي عليه، لتتبعه ما نشرته في الرسالة الغراء، ولأنه أتاح لي معاودة البحث مرة أخرى، فخرجت أشد إيماناً، وأرسخ يقيناً بصحة ما أنكره من بحثي السابق، كما قيض لي في كلمتي هذه ذكر بعض الكتب الفقهية، وكتب التفسير والحديث وتسجيل المراجع العلمية الصحيحة التي اعتمدت عليها.
اعترض الأستاذ في كلمته قضية، ذكرتها في محاسن التشريع الإسلامي، على أنها دليل على مراعاة الشريعة الإسلامية المساواة في تكاليفها وأحكامها، كما سقت قضايا وأدلة أخرى على تلك المزية.
والقضية التي اعترضها الحقوقي فأنكرها هي: أن الربيّع بنت النضر لطمت جارية فكسرت ثنيتها، فطلب أهل الجارية القصاص، فأمر رسول الله به، فجاء أخو الربيع أنس بن النضر، وكان من خاصة الصحابة، فقال يا رسول الله: والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيّع، فقال رسول الله: كتاب الله القصاص، فلم يزل أنس يقول لرسول الله، حتى جاء أهل الجارية راضين بدفع الأرش، فقضى رسول الله به).
وظاهر من سياقة هذه القصة (في مبحث المساواة في التكاليف والأحكام) أنها إنما سيقت هي ونظائرها للاستدلال على أن الأحكام الشرعية تطبق على جميع أفراد المسلمين بلا تمييز، فلا تسقطها صلة بعظيم، ولا تتبدل بشفاعة ولا وساطة من كبير أو ولي حميم، وإن كان أنس بن النضر الذي هو من خاصة الصحابة، وله قدم صدق في نصرة الإسلام، والجهاد في سبيل إعلاء كلمته، كما يؤخذ منها أن الحكم في مثل هذه القضية ليس متعيناً في القصاص إلا إذا استمسك به المجني عليه أو ولي الدم، أما في حالة العفو أو الرضا بالأرش أو الدية فإنه لا يحكم بالقصاص (وسيأتي إثبات ذلك).
بيد أن الأستاذ اعترض هذه القصة السابقة، وأنكر حصولها وهو في كل ما أتى به في كلمته لم يتعد وجهين اثنين لإثبات رأيه: الأول أن القضية المذكورة (قضية الربيّع)