لأبي الفرج الببغاء في أحاديث الطيف ومناجاة الخيال شعر أفعم حسنا وجودة وعذوبة وحلاوة، ومعان ملئت جمالاً وروعة وصفاء ورقة؛ حتى لكأني به قصد إلى أن يميل ذوي الصبوة والهوى إلى وصال طيف الحبيب ورسمه لا شخصه وجسمه، فهو يعلمهم كيف يتسلون بمناجاة القلوب عن مداعبة المحبوب، ويدعوهم مفتنا إلى هذا اللون من الوصال الذي لم يدعهم إليه قبله أحد في مثل رشيق تعليله وبديع تصريفه وعجيب لعبه بالخيال وجميل استلهامه المعاني، فمن ذلك قوله:
علمت طيفك إسعافي فما هجعت ... عيناي إلا وطيف منك يطرقني
فكيف أشكر من إن نمت واصلني ... بالطيف منه وإن لم أغف قاطعني؟
فمن من العشاق المولهين لا يرقب أن يسعده ذلك الطيف الطارق، ولا يشتري الكرى بكل ما يملك إذا علم أنه لا سبيل سواه إلى الوصال، وهو داعية المتعة بالحسن والجمال، وإن الغفوة نهزة رسول الحبيب، ينتهزها ليشفي بها حر الوجيب؟ وأين من هذا قول ابن المعتز في مثل هذا المعنى وهو ملك الشعر ولاسيما في هذا الضرب:
شفاني الخيال بلا حمدة ... وأبدلني الوصل من صده
وكم نومة ليَ قوَّادة ... تقرب حِبي على بعده
وإنها لجفوة جافية - لا نعرفها في ابن المعتز - ألا يحمد من يشفيه، وألا يستحق شكره مبعوث حبيبه المصطفيه، وينسب ذلك إلى نومة قوادة لا تستأهل حمداً، ولا يستجيز لها أحد شكراً، لأنها أتت شيئاً نكراً لا أظن ابن المعتز يستميحه لنفسه في اليقظة، فكيف يستملحه في الغفوة؟ ولو أنه قال:
وكم نومة لي مزدانة ... بوصل حبيبي على بعده
لكان - فيما أرى - أكثر توفيقاً وأنبل خيالاً وأعف لفظاً وأكرم حباً. ومما قاله أبو الفرج في الطيف أيضاً:
يا طيف من أنا عبده من أين لي ... شكر يقوم ببعض ما توليه