ذهبتُ في صُبح يوم عيد الفطر أحملُ نفسي بنفسي إلى المَقْبرة، وقد مات لي من الخواطر مَوْتَى لا مَيتٌ واحد؛ فكنتُ أمشى وفي جِنَازَةٌ بمُشَيِّعيها من فكرٍ يحملُ فكراً، وخاطرٍ يتبعُ خاطراً، ومعنى يبكي ومعنى يُبكى عليه؛ وكذلك دأْبي كلما انحدرت في هذه الطريق إلى ذلك المكان الذي تأتيه العيونُ بدموعها، وتمشى إليه النفوسُ بأحزانها، وتجيء فيه القلوبُ إلى بقاياها. تلك المقابرُ التي لا ينَادي أهلُها مِن أَهليهم بالأسماء ولا بالألقاب ولكن بهذا النداء: يا أحبابنا؛ يا أحزانَنَا
ذهبتُ أزور أمواتي الأعزاءَ وأتصلُ منهم بأطراف نفسي لأحيا معهم في الموت ساعةً أعرضُ فيها أمرَ الدنيا على أمر الآخرة، فأنسى وأذكر، ثم أنظرُ وأعتبر، ثم أتعرف وأتوسم، ثم أستبطنُ مما في بطن الأرض، وأستظهرُ مما على ظهرها؛ وجلستُ هناك أُشرِفُ من دهرٍ على دهر ومن دنيا على دنيا، وأخرجتِ الذاكرةُ أفراحها القديمة لتجعلها مادةً جديدةً لأحزانها؛ وانفتح لي الزمنُ الماضي فرأيت رَجْعَةَ الأمس، وكأن دهراً كاملاً خُلق بحوادثه وأيامه ورفع لعيني كما تُرفعَ الصورةُ المعلقةُ في إطارها
أعرف أنهم ماتوا، ولكني لم أشعر قط إلا أنهم غابوا؛ والحبيبُ الغائبُ لا يتغير عليه الزمانُ ولا المكانُ في القلب الذي يحبه مهما تَراخَتْ به الأيام؛ وهذه هي بقية الروح إذا امتزجت بالحب في روح أخرى، تترك فيها ما لا يمحى لأنها هي خالدة لا تُمحى
ذهب الأمواتُ ذَهَابَهم ولم يقيموا في الدنيا؛ ومعنى ذلك أنهم مروا بالدنيا ليس غير، فهذه هي الحياة حين تعبر عنها النفسُ بلسانها لا بلسان حاجتها وحِرصها
الحياة مدةٌ عمل، وكأن هذه الدنيا بكل ما فيها من المتناقضات إن هي إلا مَصْنَعٌ يُسَوغُ كلُّ إنسانٍ جانباً منه، ثم يقال له: هذه هي الأداةُ فاصنع ما شئتَ، فضيلتك أو رذيلتك
جلستُ في المقبرة، وأطرقت أفكر في هذا الموت. يا عجباً للناس كيف لا يستشعرونه وهو يهدمُ من كل حيٍ أجزاءً تحيط به قبل أن يهدمَه هو بجملته، وما زال كلُ بُنْيانٍ من الناس به كالحائط المُسَلطِ عليه خرابُه يَتَآكل من هنا ويتناثر من هنا
يا عجباً للناس عجباً لا ينتهي، كيف يجعلون الحياةَ مدة نزاع وهي مدةُ عمل؛ وكيف لا