للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[١٦ - دفاع عن البلاغة]

٨ - الأسلوب

كان سيد البلغاء محمد بن عبد الله (ص) يكره أن يجاوز الكلام مقدار القصد به؛ فقد تكلم رجل عنده فأطال، فقال له: (كم دون لسانك من حجاب؟ قال: شفتاي وأسناني. فقال له الرسول: إن الله يكره الانبعاق في الكلام. فنضر الله وجه رجل أوجز في كلامه واقتصر على حاجته)

وقيل لإياس: (لا عيب فيك إلا أنك تطيل. قال: أخيراً تسمعون أم شراً؟ قالوا: خيراً. قال: فالزيادة في الخير خير. روى ذلك الجاحظ وعقب عليه بقوله: (وليس الأمر كما قال إياس؛ فإن للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية. وما فضل عن مقدار الاحتمال، ودعا إلى الاستثقال والملال، فذاك الفاضل هو الهذر، وهو الخطل، وهو الإسهاب الذي سمعت الحكماء يعيبونه)

وكان أمراء النثر العربي من أمثال جعفر بن يحيى وسهل ابن هرون يتوخون جانب القصد، ويؤثرون طريق الإيجاز، حتى قال جعفر للكتاب: (إن استطعتم أن تجعلوا كتبكم كلها توقيعات فافعلوا). والتوقيعات ما يعلقه الخليفة أو الوزير أو الرئيس على ما يقدم إليه من الكتب في شكوى حال أو طلب نوال. وهي تجري مجرى الأمثال في الجمع بين الإيجاز والجمال والقوة. مثل ذلك ما وقّع به المأمون إلى الرستمي في قضية من تظلم منه: (ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة وغريمك خاوٍ وجارك طاوٍ). وما وقع به جعفر في كتاب رجل شكا إليه بعض عماله: (قد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما اعتدلت، وإما اعتزلت)

كذلك كان أقطاب النثر الفرنسي من أشباه (شاتبريان) و (فلوبير) يتشددون في الإيجاز، ولا يتسمحون في الإعادة، حتى حرموا على أنفسهم استعمال اللفظ مرتين في صفحة واحدة. وقد أخذ (فلوبير) في إحدى رسائله على (شاتبريان) أنه كرر لفظاً مرتين في وصفه قدوم (أودور) إلى روما في كتابه (الشهداء). ومن كلام (بوالو): يجب أن تعرف كيف توجز، لتعرف كيف تكتب. ونفور نوابغ الكتاب من الإسهاب منشؤه فيهم تلك القوة البلاغية الإلهية التي تحدد الغاية وتريد أن تبلغها من أخصر طريق. فهم لا يلغون لأنهم يعلمون المعنى

<<  <  ج:
ص:  >  >>