للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الذي يدل، ولا يخبطون لأنهم يبصرون الأمد الذي يرام. أما الذين لا يقدرون ما يقولون، أو لا يدرون أين يقصدون، فهم كالماء الهائم على وجه المنحدر قصاراه زبدٌ وجرجرة، أو كاللسان المخبول نطقه لغطٌ وثرثرة. وثرثرة اللسان كقرقرة البطن أصوات تذهب مع الريح!

والإيجاز في بلاغة العربية كما قلنا أصل وروح وطبع، ولكنه في البلغاء قوة وروية وعمل. ونريد بالعمل الجهد، لأن الإيجاز غربلة ونخل، وتنقية وتصفية، وتصعيد وتركيز، وذلك لا يتهيأ لك إلا بدوام النظر وطول التعهد. ومهما قلبت المجلة على وجوه البيان فإنك لا محالة واجد فيها عوجاً يعدل، أو نتوءا يسوى، أو فضولاً يشذب. والنثر في رأي فلوبير لم ينته، وهو في رأينا لا يمكن أن ينتهي، لأن صور الجمال لا تنفد، وغاية الكمال لا تدرك.

والمزية الظاهرة للإيجاز على الإطناب أنه يزيد في دلالة الكلام من طريق الإيحاء. ذلك لأنه يترك على أطراف المعاني ظلالاً خفيفة يشتغل بها الذهن، ويعمل فيها الخيال، حتى تبرز وتتلون وتتسع، ثم تتشعب إلى معان أخر يتحملها اللفظ بالتفسير أو بالتأويل، والقرآن الكريم معجزة الدهر في هذا الصدد

وليس بسبيل الإيجاز البلاغي من يقص أجنحة الخيال ويطفئ ألوان الحسن، ويترك أسلوبه كأسلوب التلغراف، شديد الاقتضاب والجفاف، على نحو ما يدعو إليه بعض أدبائنا المعاصرين؛ فإن الإيجاز، مهما قيل في جلالة خطره، صفةٌ من صفات البلاغة الثلاث لا يغني عنها ولا تغنى عنه

ولقد كان لإطناب الفرس مساغ في أذواق العرب أول ما قطرت به أقلام عبد الحميد وابن المقفع والحسن بن سهل ومن لف لفهم، لاقتصارهم منه على ما يصحح الازدواج ويقيم التوازن، كقول عبد الحميد: (واعلم أن كل أهوائك لك عدو يحاول هلكتك، ويفترض غفلتك، لأنها خدع إبليس، وخواتل مكره، ومصايد مكيدته، فاحذرها مجانباً لها، وتوقها محترساً منها. . . الخ). فلما اشتد خلاط العرب للفرس تداخلت اللغتان، وتمازجت العقليتان، واصبح تعاقب الجمل على المعنى الواحد سمة الأسلوب في ذلك العصر، حتى قال ابن قتيبة في قول يزيد لمروان وقد تلكأ في بيعته: (أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى

<<  <  ج:
ص:  >  >>