القوة الحقيقية للرجل هي أن يستطيع أن:(يقول ما يريد وقتما يريد أن يقول). والرجولة الحقيقية هي أن يبذل المرء دمه وماله وراحته وهناءه ودعته وطمأنينته وأهله وعياله وكل أثير عنده وعزيز عليه في سبيل شيء واحد:(الكرامة). والكرامة الحقيقية هي أن يضع الإنسان نفسه الأخير في كفة وفكرته ورأيه في كفة، حتى إذا ما أرادت الظروف وزن ما في الكفتين رجحت في الحال كفة رأيه وفكره. كل عظماء التاريخ كانوا كذلك. بل إن مصر الفقيرة اليوم في العظماء قد عرفت ذات يوم رجالاً من هذا الطراز. رجال لم يترددوا في تضحية كل شيء من أجل فكرة، والنزول عن كل متاع من أجل رأي. بمثل هؤلاء الرجال ربحت مصر كثيراً في حياتها المعنوية والفكرية. بل إني لا أبالغ إذا قلت إن الأمم لا تبنى ولا تقوم إلا على أكتاف هؤلاء. وإن الخطر المخيف هو يوم تخلو أمة من أمثال هؤلاء. نعم. وإنه ليخالجني الآن شيء من القلق إذ انظر حولي فلا أكاد أرى في مصر أثراً لهذه الفئة العظيمة. فناموس اليوم هو وطئ الفكرة بالأقدام راكضاً خلف الجاه الزائف والمال الزائل، وإنكار الرأي والجبن عن إعلانه حرصاً على الراحة وإيثاراً للطمأنينة. وهكذا قد خلت صفحة تاريخنا من أسماء العظماء هذه السنوات، وعجت بلادنا بأصحاب الألقاب وحملة الشارات وراكبي السيارات! وحق لنا جميعاً أن نسأل هذا السؤال: ما هي المعجزة التي تنهض هذا البلد وهو على هذا الخلق؟ وهل يطول غضب الله علينا فلا يظفرنا بعظيم من هؤلاء العظماء الذين يستطيعون أن يردوا الاعتبار إلى قيمة الرأي، ويطهروا النفوس من درن المادة، ويعيدوا المثل العليا النبيلة إلى مجدها القديم، ويرتفعوا بالأمة كلها في لحظة إلى سماء الخلق العظيم! إذا حدث ذلك فقد نجونا. وإذا لم يحدث ذلك فلا شيء ينتظرنا غير انحلال أكيد، وهبوط إلى مرتبة العبيد.