من الخطوب ما يدهم المرء فيصيبه بجمود في الحس وخمود في الذهن فلا يشعر ولا يفكر. ومن الأهوال ما يفجأ الآمن فيرميه بالدهش والتلدد فلا يقدم ولا يؤخر. وتلك كانت حالي حين أقبل عليَّ صديق يقول وهو يقلب كفيه، ولا يملك مسارب عينيه: قُتل النقراشي الساعة برصاص أخ مسلم!! فبرق بصري لما قال، وأقمت شاخصاً لا أطرف، ذاهلاً لا أعي! وتسامع الناس بالخبر المشئوم، فاعتقلت ألسن، واخضلت أعين، ولهفت قلوب؛ وظل أكثر السامعين بين مصدق ومكذب، حتى أسند الخبر إلى مدير الدقهلية، فاستيقنوا جميعاً وقوع الكارثة التي طالما تمناها الإنجليز لمصر، وابتغاها اليهود للعرب. وتجمع أهل المنصورة زمراً في المقاهي والطرق والحوانيت يطيلون في الثناء على الصريع العظيم، ويستعينون بالعزاء على الخطب الجسيم، ويحاولون أن يعللوا هذا الجرم الفظيع فلا يجدون باعثاً عليه لا من واقع الأمر، ولا من عمل الرجل، ولا من مصلحة الوطن، ولا من سياسة الدين!
وثاب إلي وعيي بعد ذهول المفاجأة فشعرت بصدري يضطرم، وبصبري يرفض، وبدمعي ينهل، وبخاطري يتمثل النقراشي الصديق وهو يزورني معزياً في وفاة ولدي؛ ويتمثل النقراشي المجاهد وأنا أزوره مستضيئاً برأيه في مشكلات بلدي؛ ويتمثل النقراشي الوزير وهو يغلب عقله على هواه، ويؤثر رضا الله على رضاه، ويضحي بالصداقة في سبيل العدل، وبالحزبية في سبيل الوطن؛ ويتمثل النقراشي الرئيس وهو ينهج في سياسته نهج الصديق، وبسمت في حكمه سمت الفاروق، فيحدد مطالبنا المبهمة، ويشدد عزائمنا الموهونة، وينشر فضائلنا المطوبة، وينعش آمالنا الذاوية، ويحرر أعناقنا المغلولة، ويطلق أيادينا المقيدة، ويرفع رءوسنا المطأطئة؛ ثم يقف في مجلس الأمن على ملأ من الأمم ومسمع من العالم، يقرع إنجلترا بالحق فتفحم، ويلوي عنقها بالحجة فتكابر؛ ثم يسير جيشنا الأصيل الحر إلى إنقاذ فلسطين وينفخ فيه من روح إبراهيم فيصنع المعجزة ويدني المستحيل على قلة عدده ونقص عدده!
نعم، تمثل خاطري النقراشي في هذه الأحوال وفي هذه الأعمال، ثم تمثل في الوقت نفسه هذا الإنسان العامل الكامل، الشريف العفيف، المؤمن المخلص، الشجاع الحازم، صريعاً بالنار كلص أراده الشرط، ملطخاً بالدم كخائن رماه الجنود! فأسائل نفسي كما يسائل كل