للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بين العرب والفرس]

بمناسبة المصاهرة الملكية

من دلائل التوفيق وبشائر النُّجح في توثيق ما أوهن الدهر من أواصر الأخوة بين دول الشرق الإسلامي، أصهار العرش الإيراني العريق إلى العرش المصري المؤثّل. فإن الغفوة الثقيلة الطويلة التي غفاها الشرق في ظلال الضراعة والجهالة والخمول، قطعت الأسباب بين حاضره وماضيه، ومزقت الأوصال بين قاصيه ودانيه، فأصبح فلولاً لجيش باد، وطلولاً لمجد تقوض. فلما أذن الله لليل الشرق أن يُصبح، أيقظ العرب والترك والفرس، وهم الأمم الثلاث اللاتي سطعت بهن شمسه، وازدهر بمجدهن أمسه، وانتشر بفضلهن نوره، فانتعش ما ذوى من رجائه، وتجدد ما خوي من بنائه، وهبت العبقريات الساميَّة والآرية والطورانية تتفتح مرة أخرى في ربيع الإسلام الدائم. وحضارة الإسلام، وإن شئت فقل حضارة الدنيا، كانت نتاجاً لازدواج الوحي العربي بالخيال الفارسي، نشأ منه هذا الأدب الإنساني الذي حلل نوازع النفس، وهذا الفن العالمي الذي صور مدارك الحسَّ، وهذا التصوف الفلسفي الذي ترجم غوامض الروح، وذلك النظام الاجتماعي الذي جعل الحياة فناً وتمدين الناس طريقة

نعم كان لابد للفرس من العرب ليبصروا نور الحق، ويدركوا سمو النفس، ويعرفوا كلمة الله؛ وكان لا بد للعرب من الفرس ليعرفوا الدنيا، ويذوقوا النعيم، ويتعلموا الملك. فلما جمع الله الشعبين العظيمين بالإسلام، وربط بينهما بالضرورة، نزت في رأسيهما عصبية الدم النبيل وعزة النفس الحرة، فأدلَّ العرب بالدين والفتح والعروبة، وتبجح الفرس بالسلطان التليد والتاريخ المجيد والحضارة الرفيعة، فكان بين الأمتين ازورار طبيعي إذا اشتد كان عداوة، وإذا خف كان مصانعة.

والشخصية العربية الغلابة التي استطاعت أن تذيب في جنسها كل جنس، وتبيد بلغتها كل لغة، لم تستطيع أن تعرّب الفرس ولا أن تقهر الفارسية. فبقي استقلال إيران في القومية والطبيعة واللغة، وزال أو كاد في السياسة والعقلية والأدب. ثم تَنَزَّكت الخلافة فتترك هوى العرب؛ وأرَّث العثمانيون النار الخابية بين الشعبين بالخلاف المذهبي، فانفرجت الحال وتنكر الأمر، حتى قامت القيامة الصغرى في الحرب العالمية الكبرى، ووقف الشرق

<<  <  ج:
ص:  >  >>