يوم قرأت أنهم سيحتفلون في معاهد الغرب الفلسفية بانقضاء مائة وخمسين سنة على مولد (شوبنهور) كان شعوري بهذا النبأ كشعور السالك في الطريق يلقاه على حين غرة صديق قديم مستحب اللقاء مذكور البدوات، على شوف إلى مراجعة عهده السابق واستئناف عشرته القديمة
هذا أنت يا صاح؟
وأين كل هذا الزمن الطويل؟
فقد مضت فترة ليست بالقصيرة لم أصاحب فيها هذا (المعري) من بني الجرمان ولم أراجع كتبه ولم أساجل آراءه وخواطره وأفانين تفكيره، فلما سمعت أنه سينبعث من جديد في ذكرى ميلاده، وأن ميلاد إمام المتشائمين القائلين بأن الولادة أدعى (الذكريات) إلى الحزن والندم - سيصبح في الملأ كله موعداً للغبطة والتبجيل، وأن الدنيا ستشهد هذا الحادث المتناقض كما شهدت نقائض شوبنهور في إبان حياته - عادت إلى الذهن تلك النقائض كلها وتلك الطوائف المقرونة بها، ولاح لي شوبنهور الظريف وهو أول ما يلوح للذهن منه قبل الفيلسوف وقبل الشيخ الوقور
وتلك أولى النقائض والبدوات من صاحبنا القديم: فيلسوف متشائم ولا يذكره الذاكر إلا ابتسم لفكاهاته ونكاته وغرائب عاداته، وولع الدنيا بمناوأته واستخراج شكاياته
فإذا ذكرت (شوبنهور) فأنت تذكر الرجل الذي يبشر بالفناء ويستنكر الحياة، ثم يسمع بظهور الهواء الأصفر في برلين فلا يقف في طريقه هرباً حتى يبلغ فرنكفورت، ولا يعود منها حتى بعد جلاء الوباء بسنين
وتذكر الحكيم الزاهد في عرض الحياة وهو لا يترك دانقاً من حسابه في المصرف، ولا يضع النقد إلا في صندوق مكتوب عليه (مادة طبية). . . كما فعل العطار الذي يكتب عنوان الفلفل على صندوق الحلوى!
وتذكر الراهب الذي يعربد حتى يلحق به تلاميذه في بيوت بنات الهوى، وينفي لذاذات