مكة أرض الله المقدسة في حصار الكعبة بيت الله الحرام يروح فيها الجند ويجيئون. ألوية هنا ورماح هناك، أسلحة وآلات وجنود داخل المدينة، قائدهم رجل في السبعين هو عبد الله بن الزبير خليفة الحجاز. وجنود حول المدينة كفاهم قوة انهم جند الشام، وكفاهم رهبة أن قائدهم شاب في الثلاثين هو الحجاج بن يوسف الثقفي. جو مكة كله هلع والتياع وكأنما كل شيء يوحي إلى أهلها إن استسلموا فالحرب ضروس والموت على الأبواب.
ماجت مكة بكثرة الوافدين عليها ليؤدوا فريضة الحج. ولكن جند الشام لم يترك مكانه، وجند مكة لم يبرح محاصرا لا يستطيع خروجا. لم يستطع الحجاج ولا جنده الطواف بالبيت بل ظلوا محرمين مكانهم لابسين الدروع فوق الإحرام ولم يستطع ابن الزبير الخروج إلى عرفة فنحر هديه في مكة. جاء جند الشام فافسد على الحجاز كل شيء، سلي الأمن أهلها، وشوه شعائر الدين المقامة بها، وبشرها بأفول مجدها السياسي بتحول مركز الخلافة عنها. الشام الفتية جاءت لتضطر الحجاز الهرمة إلى أن تقنع بما يقنع به الهرم من الحياة.
هدأت الحركة في مكة بعض الشيء منذ رجع الحاجون إلى أوطانهم. ولكن نفوس أهلها في حركة وأي حركة، هلع وخوف وقلق. لقد طال بها الحصار وضاقت نفوس أهلها فلا يستطيعون احتمال المزيد، طال الحصار واشتد الضيق، وصعب الامتحان وكلما صعب الامتحان قل عدد الناجحين: كل يوم يسير فوج إلى القائد الشاب طالبا الأمان. التفت الزبير فإذا هو قليل الأعوان قليل العدة، شيخ تربطه بالحياة خيوط واهية. ما مصيره؟ الموت. وما مصير آماله وهي آمال قطر وآلام شعب؟ ألم يكد يتم له الأمر لولا ظهور مروان في الميدان؟ ألم يكن العراق خاضعا له بآلام بعد أن قتل مصعب المختار؟ ولكن مصعبا قتل، وبقتله أفلتت العراق من يد الزبيريين، وغدا سيقتل هو ويفلت الحجاز من يد الزبيريين بعد أن لم يبق بها إلا هو.
(أما والله إنا لا نموت حتف انفنا كميتة آل أبي العاص، وانما نموت فعصا بالرماح وقتلا تحت ظلال السيوف)