وإذا وجدنا أن اللغة لا تجري فحسب على ألسنة الشعراء الجوالين (الذي كانوا عادة على جانب من الثقافة) أو عرب الحيرة المسيحيين، بل تتداولها ألسن الرعاة واللصوص والبدو الغلاظ في كل البقاع، إذا وجدنا هذا فليس ثمت داع للشك في أننا نسمع من خلال شعر القرن السادس اللغة العربية التي كانت مستعملة في طول بلاد العرب وعرضها. وقد زاد انتصار محمد والفتوح الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين من شأن هذه اللغة وأصبحت العربية لساناً مقدساً في جميع الأمصار الإسلامية. ولا مراء أن الفضل في هذا يرجع إلى القرآن، ولكن من ناحية أخرى أمر اعتبار لهجة مكة (التي نزل بها القران) الأصل للعربية، وتسمية العربية (لغة قريش) كافٍ لدحض كل حقيقة حول هذا الموضوع. وقد اتخذ محمد (ص) - كما لاحظ نلدكه - الشعر القديم مثالاً. وفي صدر الإسلام كانت سلطة الشعراء الجاهليين (وقليل منهم كان من قريش) هي التي ثبتت قدم اللغة الفصحى وعممت استعمال الأسلوب الفصيح. وطبيعي أنن يكون المسلمون - وهم الذي عدوا القران كلمة الله والمعجزة البالغة في أسلوبها - قد قدموا لهجة قبيلة النبي على كل لهجة أخرى، كما أنكروا القول بأن كل قبيلة أبعد من مكة أقل فصاحة، ولكن هذه النظرة لا تلقى قبولاً لدى الباحث المحايد. ولو أنه كان للقران تأثير عظيم في تاريخ اللغة العربية وآدابها، وسنرى في فصل خاص أن ضرورة حفظ أصل الكتاب الكريم سليماً، وشرح غوامضه بعثت المسلمين على استنباط علم النحو واللغة، ودعت إلى جمع شعر الجاهلية والأخبار التي لابد قد تطرق إليها الضياع. ولما استقر العرب - كفاتحين - في سورية وفارس واختلطوا بالشعوب الغريبة عنهم، لم تلبث لغتهم محافظة على فصاحتها الأولى، أما في بلاد العرب نفسها وخاصة بين بدو الصحراء فلم يكن الفارق محسوساً، وكذلك في البلدان المجاورة ومراكز التجارة الكبرى كالبصرة والكوفة حيث كان معظم السكان من الأجانب الذين اعتنقوا