للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[صفحة من التاريخ]

روح مصر

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

دع من شاء يتغنى بفرنسا وما في فرنسا، ودع من شاء يتغنى بإنجلترة وما في انجلترة؛ دع هؤلاء جميعا يعنفون مصر وما في مصر وينكرون ماضيها، فما نحن منهم في شئ. وليس في الأمر علينا من مضاضة إلا ألم الساعة نشعر به كلما وقعت أعيننا عفوا أو قصدا على كلمة لبعض هؤلاء؛ حتى إذا مرت الساعة لم يبق من اثر لكلمتهم إلا كما يبقى من اثر قول الولد العاق في نفوس أهله، فان الحب يغلب الكراهة، وسعة صدر الوالد لا يدوم معها الغل ولا تبقى عليها الحفيظة. ثم لن تكون إلا أعوام فتنضج العقول الفجة، ويتسع الأفق الضيق، ويغزر المحيط الضحل، فيعود هؤلاء جميعاً إلى تقديس مصر ومعرفة روحها، وإعطائها ما يجب لها من الإجلال.

وأما نحن فما بنا ولله الحمد غير مصر وحب مصر، والإعجاب بها والإشفاق عليها: نعجب بما فيها من جليل، ونشفق على ما بها من عليل أو ضعيف. ليس في القلب نحوها موضع لغير عاطفتي الحب والإشفاق. هذه كلمة نفرج بها عن النفس مما تحسه، إذ كثر في هذه الأيام حديث الزراية بمصر من قوم لا نجد في نفوسنا ميلاً إلا للدعاء لهم بالتوفيق إلى ما هو خير من ذلك واكرم.

ولنعد إلى الماضي نقلب فيه صفحة من صفحات تاريخ مصر، لنرى أن روحها كان أبداً روح الكريم الأبي، ولو علا تلك الصفحة صدا القدم، أو غشاء الوهم.

لا حاجة بنا إلى أن نعود إلى أيام الفراعنة، أو إلى أيام مجد الدول الإسلامية التي كان فيها لمصر ذلك الروح المتوثب القوي، بل نعود إلى أيام القرن الثامن عشر الذي يصفه بعض المؤرخين بالظلمة والانحطاط، ولم يتورعوا أن يتهموه بأقسى التهم وأشنعها، وتعدوا فيه الوصف الشنيع إلى السب المقذع حتى في التسمية، فلا يعرفونه إلا باسم (عصر المماليك) كأننا بهم يعيرون حكامه بأنهم كانوا في أول أمرهم يشترون بالمال. وأنا إذا عدنا إلى ذلك العصر لم نجدروح مصر خفيا، بل نراه واضحا مجلواً على عهده من الكرم والأباء: لئن كان حكام مصر الأسبقون يشترون فيأول حياتهم بالمال، فقد كانوا رجالأ طالما ذادوا عن

<<  <  ج:
ص:  >  >>