للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من ذكريات لبنان]

النفوس المغلقة

للأستاذ أديب عباسي

نهضت في الصباح الباكر ودعوت حمالاً يحمل الحقائب إلى المحطة. وكنت قبلها قد هممت مرتين في صباحين متوالين أن أسافر، ولكنني كنت كل مرة أصل المحطة متأخراً عشر دقائق أو نحوها. وكنت بالطبع ألقى اللوم على أصحاب الفندق الذين يتعمدون التلكوء عن تنبيهي صباحاً حتى يستنزفوا البقية من دراهمي! والحقيقة التي لا مراء فيها أن أصحاب الفندق لم يهملوا تنبيهي في الوقت الذي سألتهم أن يفهموني فيه، ولكنها الرغبة الكامنة في هذا البلد الجميل - لبنان - كانت كل مرة تتغلب على الإرادة الشاغرة فتغمض العينين بعد انفتاح، وتضرب على الإذنين بعد انتباه، وتهوم للشعور فيغفو بعد صحو وبقيت بعد حضور.

وكنت بعد أن ابلغ المحطة وأحملق في القطار الذاهب في حنق مكذوب أعود أرضى نفساً وأوفر بشراً مما لو كنت لحقت بهذا القطار - قطار لبنان العجيب - ليحملني بين أنفاسه الفاسدة في أنفاقه المتعددة، وسيره المتخلع البطيء ويلفظني بعد مسيرة سبع ساعات على حال شر من الحال الذي خرج عليه يونان بعد ضيافة ثلاثة أيام قضاها في بطن الحوت في غير رحب ولا سعة.

وسمعت، وآنا لا أزال في الطريق، مناديا ينادي؛ يا أفندي، تفضل! وأدركت إنني آنا المقصود بهذا النداء. فاستدرت ونظرت وإذا شاب حسن البزة واقف بجانب سيارته البديعة وعينه إلي ويديه تشير إلى السيارة. ودنوت أساله في تلكوء متكلف ماذا يريد أجابني متلطفا: أوتوموبيل جميل. وخير لك أن تسير فيه من أن تيسر في القطار.

وبعد أن أستنزف بلاغته في صرفي عن السفر في القطار الجميل قال أنني لا آخذ إلا مثل ما آخذه من كل راكب. وذكر مبلغاً هو ضعف ما يؤخذ عادة أجراً على مثل هذه المسافة. وعندها أدركت أني البس سدارة، ومن هنا سيأتيني الخطر في هذه الصفقة، وبادرت أصلح الموقف على قدر ما يمكنني الإصلاح وقلت: لتعلم أن من غير العراقيين من يحب أن يلبس السدارة (وإخواننا العراقيين - سامحهم الله - يبعثون، حيثما حلوا، موجة من الطمع

<<  <  ج:
ص:  >  >>