في يوم صائف من أيام عام ١٩٤٠ كنت مع بعض زملائي المحامين في غرفتهم في دار محكمة استئناف مصر الأهلية، وانتظمنا جماعة نعرض لشئون الدنيا العامة والخاصة بشتى فنون الحديث وألوان التخريج والتأويل، ونترصد لها بالنقد والتأميل. فبدهنا الزميل المحترم عبد الرحمن الرافعي بك، وهو من هو في أمثال هذه المعالجات والبحوث، بكلام في المحاباة:
تحدث الزميل مستغرباً متسائلاً: ما بال حكومات مصر قد بليت ببلية المحاباة، كأنها أساس من أسس الحكم، لا يستوي على حال مرضية إذا لم تكن في حساب الحكام؟ ثم سأل بعدئذ: أليس هناك علاج لهذه العلة الفاشية؟
وقد سارعت يومئذ إلى الإجابة على هذين السؤالين قائلاً عن السؤال الأول: إن المحاباة ليست خلقاً لحزب بذاته أو بلية ابتلى الله بها عهداً دون عهد أو حكماً دون آخر؛ بل إنها تستند إلى ما ورثنا من عادات. ذلك أن الأمة هي الصورة الكبرى للأسرة؛ وما دمنا نعمد في أسرتنا إلى إيثارها بالغنم والخير ولو كان هذا على حساب أسرة أخرى أو جميع الأسر الأخرى، فليس لنا أن نشكو ظاهرة المحاباة في الأسرة الكبرى: الأمة.
إن عاداتنا وأخلاقنا لتقتضينا أن نعني بشئون أبنائنا وأبناء عمومتنا وخؤولتنا وأصهارنا، فإذا قام منا سيد أو حاكم، وزيراً كان أو غير وزير، اقتضته الشهامة أن يؤثر ابنه على ولد أخيه، وولد الأخ على ولد العم، وهذا على من كانت صلته بعيدة. فإذا اطمأن الحاكم أو السيد على الخير قد وصل إلى أحد من هؤلاء على الترتيب والتعاقب، وكانت هناك فضلة من هذا الخير، لزمه أن يؤديها إلى الصديق أو المواطن في الفرية ذاتها أو إلى ابن حزبه
أما إذا تغشى صاحب الكلمة والنفوذ وهم من تلك الأوهام، أو رجس من تلك الأرجاس، التي ينعتونها على أسلات الأقلام أو منابر الخطابة والوعظ والدعوة السياسية، بالنزاهة التامة والعدالة الحق، فحدث ما شئت عما يصيب هذا الرجل من ألوان التشهير، فهو - عند ذويه وأصهاره وبنى قريته وبين صُدقانه - الخارج على الأسرة، المارق من المروءة، الجاحد للفضل، المختلس لثقة ناخبيه إن كان منخوباً لعضوية إحدى الهيئات، الضعيف