عندما دقت الساعة الثانية عشرة في الثامن والعشرين من أغسطس سنة ١٧٤٩، ولد في بيت نبيل من نبلاء فرانكفورت طفل شاحب اللون تبدو عليه علائم الموت بعد شدة مضنية من أم تبلغ الثامنة عشرة. . . لم تمض بضع دقائق على ذلك حتى نادت الجدة التي كانت قابعة على الفراش. . (اليزابيث، إنه حي!).
كانت هذه الصرخة، صرخة امرأة إلى أخرى، وكان الصوت صوتاً رقيقاً فيه المرح والفرح وفيه البشرى والحبور. إن الطفل الذي اجتاز البوابة السوداء محتقناً ضعيفاً، كان مقدراً له أن يقضي حياة فيها جلالة الوجود وعظمته. مضى على ذلك ثلاث وثمانون سنة تقلبت عليه صفحات من التاريخ تحته ومنها حرب السبع سنوات، ونضال أمريكا في سبيل الاستقلال، والثورة الفرنسية، وقيام نابليون وسقوطه، وانحلال الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وانبثاق فجر العصر البرجوازي.
هذا الشيخ الذي تعاقبت عليه كل هذه الحوادث، يقف أمام منضدته برأسه الأشيب وثباته والحلقات الغريبة من عمره المديد تضفي ظلالاً على عيونه السنجابية وتكسبها معنى خاصاً وهو يكتب آخر رسالة إلى صديقه القديم، الفقيه والسياسي (ولهلم فون همبولدت) في برلين فيقول في سياق رسالته (العبقرية هي تلك الموهبة التي تتشرب كل شيء دون أن تسيء إلى مقدراتها الأصلية. . وبالممارسة والتعلم والنجاح والتأمل والفشل - وبالتأمل أكثر فأكثر - تمتلئ أعضاء الإنسان بحريتها الغريزية إلى أن توحد المكتسب بالكامل لتنتج وحدة منسجمة تدهش العالم. المخلص غوته. .) وما كادت تمضي على وفاة جوته أيام قليلة حتى كتب فون همبولدت صاحب الشخصية الوهاجة الصريحة. . كتب معلقاً بأن هذا الإنسان أثر تأثيراً لا شعورياً وبمجرد وجوده فقط وبدون مشقة بما يحيط به وقال (إن هذا التأثر منفصل كل الانفصال عن عمله الإبداعي كمفكر وككاتب، ومرجع ذلك إلى شخصيته