للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[خواطر مهاجر. . .]

- ٢ -

كأنما أقبل فيضان النيل في هذا الموسم متلكئاً منزوراً ليوائم طبع هذا العام في خصومة السلام وعداوة الخير!

وكأنما كانت كل سنة من عُمر الدنيا نشيداً من ملحمة القدَر تتألف أبياته من تفاعيل الخير أو من تفاعيل الشر ليصح منطق الكون فيما ينتج من أفعال الناس ومنطق الطبيعة!

كل شيء من الأشياء قد انحرف اليوم عن وضعه أو خرج عن مداره؛ لأن زلزلة الشر للأرض، وانفجار الدواهي على الناس، لابد أن يحدثا الفساد في كل معنى، ويبعثا الاضطراب في كل ذات. فمن توقع في هذه السنة النازية الجهنمية خيراً أو سكينة كان كمن يتلمس الصلاح في عمل الشيطان، ويتحسس الطرب في لحن الحزن!

يُخيَّل إليَّ وأنا أقرأ أنباء الحرب وأطالعُ أحوالَ الناس أن وشائج الإنسانية قد تقطَّعت بين بني آدم فوقعوا في فَترة منكرة من فترات الوحشية الأولى، فلا وفاء بين الآحاد، ولا ثقة بين الأمم، ولا حِجاز بين النفوس؛ وإنما يعيشون على الترصد والغيلة في فزع لا يغبّ وحذر لا يغفل. فإذا أخلف النيل بعض الإخلاف - وهو في رأي مترجمه (إميل لدّوج) معروف بخصائص الإنسانية العليا من الوفاء والسخاء والعدل - فإن ذلك لا يتنافر مع هذه الفوضى العامة المهلكة التي أصبح فيها الكذب سلاحاً مشروعاً يسمى الدعاية، والغدر سياسة مرسومة تسمى الوقاية، والخيانة خطة مدبرة تسمى الطابور الخامس!

على أن النيل أوفى منذ أيام فطمَي وزخر! ففي ذات بكرة من بكرة المنصورة الغريقة في النور والفتور والهدوء والعطر، رأيت من مشرف القهوة شاطئيه الظامئين قد شرقا من فيضه بدم الحياة أو بذوب النضار فهما يفقهان كما يفقه اليهودي ذو الربو الهرم! وأبصرت الزوارق التي تجر بالأمس على رمال القاع قد غدت على صفحته الذهبية المتموجة أشبه شيء بالحمام الطائر على حقول القمح إذا إستحصدت، أو بالفراش المبثوث على رياض الشقائق إذا توردت. ثم صور لي أن المدينتين المتقابلتين على ضفتي النهر المقدس الخالد قد صغتا إليه بوجوههما وقلوبهما كأنهما تؤديان إليه تحية العرفان، وإلى الله صلاة الشكر! حتى الكافورة بالغت أغصانها الشمالية في التدلي حتى أوشكت أن تقبل أمواجه المسلسلة

<<  <  ج:
ص:  >  >>